فلترحل يا شيخ الأزهر

د. باسم خفاجي

التقى شيخُ الأزهرِ السفيرَ الدنماركي؛ الذي قدم له اعتذارًا عن "أي تصريح أو عمل أو تعبير يشوه صورة الأديان". وفي المقابل.. ذكرت النشرة الدورية التي تصدر عن مكتب شيخ الأزهر أن الشيخ رد عليه رافضًا "الإساءة إلى الأموات بصفةٍ عامة، سواءً كانوا من الأنبياء أو المُصلحين أو غيرهم، والذين فارقوا الحياة الدنيا". وأضاف أنه "يرفض الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه فارق الحياة، مؤكدًا أن الأمم العاقلة الرشيدة تحترم الذين انتهت آجالهم وماتوا". وأضاف: "إن ذلك هو ما تقتضيه العقول الإنسانية السليمة، وفي الوقت نفسه نحن نقدس الحرية، ولكن ينبغي أن تكون في حدود ما أباحته القوانين والشرائع". كانت هذه هي كلمات شيخ الأزهر.. ومن أجلها كتبتُ هذه الرسالة إلى فضيلته.

كلماتي هذه رسالةٌ إلى شيخ الأزهر.. أدعوه فيها إلى الرحيل. أسأله فيها أن يرحم نفسَه والأزهرَ ومصرَ والأمة، وأن يقدم برحيله اعتذارًا رمزيًا عن إساءته لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقاعسه عن الدفاع عن نبي الأمة.

اِرْحل يا شيخ الأزهر.. فقد تخليتَ عن أهم واجبات المسلم، وأرهقتَ نفسك، وأحرجت مصر، وانتقصتَ من هيبة الأزهر.

أُذكِّرك أيها الشيخ بمبررات طلبي: ألا تذكر أن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم قد قال: "‏لا يؤمن ‏ ‏أحدكم حتى أكونَ أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين"؟ هل أحتاج أن أفسر لك هذا الحديث يا شيخ الأزهر؟!!.. هل تذكر كيف دافع الله عن نبيه عندما قال جل وعلا: ((إن شانئك هو الأبتر))؟.. هل تحتاج إلى من يفسر لك قول الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ)).. اِرْحل أيها الشيخ الكريم؛ فقد أخطأت خطأً لا يُغتَفَر.

أنظرُ إلى عينيك.. فلا أرى هذه الأيام إلا العجزَ والخوفَ والمذلة.. قسماتُ وجهك تحمل معاني الخنوع حتى وأنت لا تتكلم.. كنتَ تحرص على عدم جرح مشاعر سفير.. ونسيتَ حقوقَ خيرِ البشر. وهل إن مات محمدٌ تقاعستَ في الدفاع عنه لأنه قد مات؟!.. هل أذكرك أيها الشيخ بصحابيٍّ اسمه خُبيب بن عَدي عندما قال له المشركون وهم يستعدون لقتله: هل تحب أن يكون محمدٌ مكانك وأنت بين أهلك؟ فقال رضي الله عنه: "والله... إني لا أحب أن أكون آمنًا مطمئنًا بين أهلي وتصيب الرسول صلى الله عليه وسلم شوكةٌ واحدة".. ألم يكن من الأليق بك أن تكون لك وقفةٌ يذكرك بها الناس وقد دنا موعد الرحيل؟

أرجوك يا شيخ الأزهر أن ترحل.. فإنك من أرض الكنانة التي ترعى العُهود، وتذكرُ الجميلَ، وتدافع عن الجميع.. ألا تذكر- رحمك الله- أن مَن وصفتَه بـ "الميت" قد أوصى جميع المسلمين بأهل مصر، ومدحَ جُندَهم إلى يوم الدين؟.. أيُعقَل أن يتهاون مصري واحد بعد ذلك في الدفاع عن خير البشر أجمعين؟

ارحل يا شيخ الأزهر.. اعتذارًا للنبي صلى الله عليه وسلم أولاً.. وحفظًا لما بقي من كرامتك ثانياً.. وحتى لا تُحرِج القيادةَ المصرية بإقالتك ثالثاً.. ولِتُفسِحَ المجالَ لمن هو أفضل منك علمًا وعملاً آخِراً.

أملي أيها الشيخ الكريم أن تعلن رحيلك في أسرع وقت.. وأتمنى أن تغادرَ مصر سريعًا.. وتذهبَ إلى تلك الديار المقدسة؛ لِتعيد حساباتك فيما بقي من أيام العمر.. ولم يبقَ إلا القليل.. وقد أزف الرحيل. أوصيك أن تزورَ مدينة رسول الله.. وتذهبَ إلى ذلك المسجد الكبير الشريف الذي تُشَدُّ إليه الرحال. قِف هناك أمام قبر سيد ولد آدم أجمعين لتقدم بعض الاعتذار.. توقف هناك قليلاً.. تَمهَّل.. وتفرَّس في وجوه من يملأون ذلك المكان الشريف.. اُنظر حولك لتعرفَ وتتعرفَ على الأمة التي تحب نبيها.. تأمل في وجوه الصغار والكبار.. الرجال والنساء.. العرب والعجَم.. وهم يُلقون السلامَ والتحيةَ على صاحب القبر.. واسأل نفسَك لحظتها: هل أحسنت صنعاً.. عندما وصفت هذا النبي الكريم.. أنه ميت لا يملك الدفاع عن نفسه؟!.. لعلك لحظتها تكتشف حجمَ وبشاعة ما ارتكبت.

إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في حاجةٍ إلى دفاعك عنه؛ فقد تكفَّل الله جل وعلا بالدفاع عن الذين آمنوا، وعلى رأسهم نبي هذه الأمة. ولكننا نحن مَن كُنا نحتاج إلى أن ندافع عن كرامتنا مُمَثلةً في شخص نبينا الكريم. ولذلك تحركت الأمة الإسلامية لتدفع عن نفسها.. وتأخرتَ أنت يا شيخ الأزهر. إن إهانة النبي صلوات الله وسلامه عليه هي إهانة لأغلى من نحب.. وعندما تعجزُ أمةٌ عن حماية كرامةِ أغلى رمزٍ دينيٍّ لها؛ فإن الأمةَ هي التي تُهزَم وتُهان وليس النبي. وأبشرك يا شيخ الأزهر!! أن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لم تُهزم قط في معركة الدفاع عن نبيها طوال القرون الماضية، ولن تُهزم اليوم أبدًا في هذه المعركة.. فيا شيخ الأزهر.. ابحث لنفسك عن موقعٍ بين المنتصرين.. ولا تكن حليفًا للخائنين.

أعجب لحالك يا شيخنا!! من تأخرت عن الدفاع عنه.. وجد بأخلاقه ودعوته ونبله وجهاده واصطفاء الله تعالى له.. وجد أولاً ربًا يدافع عنه.. ثم أمةً كاملةً تنتفض لكرامته وحقوقه؛ تدافع عنه، وتحبه، ولا تقبل إهانته... حتى وهو ميت، كما ذكرتَ في كلماتك. أسألك بدوري متعجبًا: من يدافع عنك أنت اليومَ.. أيها الشيخ الكريم.. وأنت لا زلتَ على قيد الحياة؟! أنظر حولي.. فلا أكاد أرى أحدًا. ماذا سيحدث غدًا عندما تنتهي رحلة الحياة؟ من الذي سيدافع عنك أيها الشيخ الكبير؟ ماذا سيذكر الناس عنك... وقد زال السلطان.. وهيبة الإمام الأكبر شيخ الأزهر؟... ماذا تريد أن يبقى في ذاكرتهم عنك وأنت مُغادِر حتمًا لنا ولهم وللأزهر؟ هل يُعقَل أن تقبل اليوم أن يكون آخر ما نذكره عنك هو أنك تخليت عن الدفاع عن نبي الأمة!

أظن- أيها الشيخ الكريم- أنك كنت تحب أن تكون سياسيًا قبل أن تكون شيخًا.. وهذا حق لك، ولا أريد أن أنازعك فيه، ولكنني أسألك بالله أن تتوقف لحظةً وتسأل نفسك- من المنطلق السياسي-: هل أحسنتَ صنعًا بكلمات الضعف والمهانة التي صدرت منك؟ أسألك بمعايير السياسة وليس بمعايير الدين للحظة واحدة: كيف غاب عنك قراءة الموقف السياسي المصري من هذه القضية.. وأنت من تريد أن تكون سياسيًا؟

ألم تعلم أن سفيرة مصر في الدنمارك كانت مِن أوائل مَن أثار هذه القضية في المحافل الأوربية؟ كيف غاب عنك أن وزير خارجية مصر قد حمل القضيةَ إلى أروقة الأمم المتحدة لاستصدار قرارٍ تَبَنَّتْه مصر والعالم الإسلامي لحماية كرامة الأنبياء وعلى رأسهم خير البشر؟ ألم يكن الأجدر بك– سياسيًا– أن تتزعم الحملة لا أن تتخلف عنها. إن في السياسة الخارجية المصرية الكثيرَ من العيوب، ولكنها في هذا الموقف قد اختارت الاختيارَ الصحيح سياسيًا وشعبيًا ودوليًا أيضًا. وفاتك أن تكون سياسيًا بارعًا وتتزعم الحملة، كما فاتك قبلها أن تكون شيخ الأزهر بحق، وتُعْلي من شأن الأزهر بتبني حملة الدفاع عن خير البشر.. وفاتك- قبل كل ذلك- أن تكون مسلمًا يسارع إلى رد الإساءة عن نبي الأمة.

لماذا لم تلتزم بسياسة مصر في هذه القضية إن كنت تريد أن تُنْهي حياتك سياسيًا؟! هل كان كل ذلك مِن أجل مَن أهانوا نبي الأمة! أتدري- شيخنا الفاضل- أن هذا الأمر- وتحديدًا هذا الأمر- هو إشارة واضحة من الله تعالى لك أن الرحيل هو الخيار الصحيح. فحتى عندما اختارت السياسة المصرية الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم.. تخلفتَ أنت.. تأخرتَ عن الركب.. واخترتَ المجاملةَ، في وقتٍ اختارت فيه الدول والشعوب- وعلى رأسها مصر- أن ترفع شعارات المواجهة للدفاع عن خير البشر.. وبقيتَ وحدك في خندق المجاملين للحمقى.. واجتمعنا جميعاً في خندق محبي الرسول صلى الله عليه وسلم.

أدعوك يا شيخ الأزهر- من أجل كل ذلك- أن ترحل.. فقد تأخرتَ كثيرًا.. أُذكِّرك أن تسأل نفسك مرارًا: كيف يمكن أن تعتذرَ لنبينا صلوات ربي وسلامه عليه عن إساءتك؟ كيف يمكن أن تُمْضِي ما بقي من أيام العمر في الاعتذار وطلب العفو والمغفرة من رب العباد.. اِرْحَل أيها الشيخ الكريم.. كي يعود إلينا الأزهر.

د. باسم خفاجي
articles@khafagi.net

1
3293
تعليقات (0)