د. باسم عبد الله عالِم
26 شعبان 1425ﻫ الموافق 09ديسمبر 2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
الزاوية: صناعـة الحيـاة
ما من شك أن الأحداث المتلاحقة، بالرغم من الاختلاف في تقييمها، قد أثارت انتباه العالم وأزكت فضوله لفهم هذا الدين وأبعاده الإنسانية والحضارية. وكان الغرب فيما مضى يجلس على عرشه ينظر إلى العالم الإسلامي من علٍ يشير إليه باللوم تارة وبالازدراء تارة أخرى وبالتوجيه الآمر الذي لا يقبل جدل حوله. أما اليوم فإن الاستعلاء الغربي، وان كان لازال قائماً ومهيمناً، قد أفرز من داخل المؤسسات المدنية الغربية من يحاول إعادة النظر في موقف الغرب من الإسلام والمسلمين وإعادة تقييم العلاقة الثنائية على أساس فهم الدين الإسلامي كما يراه أهله واتباعه لا كما كان يحلو للغرب أن يصوره سابقاً ثم يحشد الأدلة المزيفة التي تصب في تعزيز مفهومه وسابق اعتقاده.
والى هذا الهدف تحركت المؤسسات التعليمية والفكرية إضافة إلى المؤسسات الإعلامية المستقلة والمرافق الحكومية ذات الصلة، من أجل التعرف على هذا الدين عن كثب واستطلاع آراء أهله واتباعه. وبالرغم من هذا التوجه المعرفي المحمود، فإن جل اهتمام الغرب لا يزال يدور في فلك موروثهم الثقافي الذي يصعب تحييده والذي لا يزال يوجه اهتماماتهم المعرفية.
وقد كان لي عبر السنوات السابقة فرص عديدة للالتقاء بإعلاميين ومفكرين وصناع قرار جاءوا من الغرب إلى عالمنا العربي والإسلامي للالتقاء والتساؤل والازدياد المعرفي ليتمكنوا من إعادة تقييم مواقفهم وسابق اعتقادهم أو من إعادة صياغة استراتيجيات المواجهة مع العالمين العربي والإسلامي، وكلا النيتين غير بعيدتين عن ذهن المتلقي. وما يريح الإنسان المسلم هو أن يكون واضح الإجابة مؤمن بدينه غير وجل من تعاليم دينه أو تأثير إجاباته على المستمع الغربي.
ولعل العامل المشترك لكل لقاء أو استفسار كان مسألة الحريات والحقوق وكل ما يبنى على ذلك من نظم حياة، ابتداء من الوليد، مروراً بكافة قطاعات المجتمع وأفراده، وانتهاء برأس الحكم في الدولة. والحقيقة هي أن قول الحق كما تؤمن به قد يبرر الكثير من مواقفك كمسلم تجاه الغرب ولكنه أيضاً يوضح بجلاء تلك الانتقائية المقيتة التي نتعامل بها مع ديننا فنختار ما نشاء وندع ما نشاء تبعاً للأهواء والمصالح الخاصة الضيقة. إلا أن الحق يعلو ولا يعلا عليه، وواجب الإنسان أن يدافع عن دينه بمفهومه الأوسع والأشمل لا أن يدافع عن نفسه وتصرفاته محاولاً التستر وراء دينه ولي عنق أحكام هذا الدين الحنيف لتبرير قصوره وتقاعسه أو قناعاته المنبثقة عن عادات وتقاليد محلية محصورة لا تمت للدين بأي صلة.
وقد كان أهم ما يقلق الغربيين هو محاولتهم لمعرفة حقيقة دور المرأة في المجتمع المسلم، غير قادرين على استيعاب التهميش الذي تلاقيه المرأة في العالم الإسلامي، إذ أنه في رأيهم يخالف مصلحة المجتمع من عدة أوجه، ويحشدون الأدلة على ذلك. وهذا مثال حي على تعاملنا مع ديننا وحقائقه سواء كانت النتيجة تصب في مصلحتنا وتبرير مواقفنا أو تديننا لعدم تواؤمنا مع تعاليم الدين وتشريعاته .وكنت أتعجب من سؤالهم الذي يتجاوز الاستفهام الطبيعي إلى صيغة الاستنكار بل والتهكم أحياناً. وقد كانت إجاباتي لهم نابعة من محض قناعاتي ومفهوم المسلم البسيط لتعاليم سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت قناعتي التي لا تتزعزع هي أن ربط تهميش المرأة بمصلحة المجتمع وإنتاجيته هو في حد ذاته تقليل من شأنها وسلب لإرادتها وإنسانيتها فالمرأة كيان إنساني مستقل بكل أبعاده يجب أن يكون لها كافة الحقوق الإنسانية الأساسية دون الاعتبار إلى حاجة المجتمع ودورها في إنتاجيته. فالنظرة المحاسبية المادية هي نظرة مهينة لهذا الدين وتعاليمه السامية، إذ أن الحقوق الإنسانية لم ترتبط يومياً بالإنتاج المادي لمجتمع من المجتمعات إلا في إطار الرأسمالية المقيتة أو الشيوعية البائدة. أما الإسلام فقد كرم الله به الوحدة الموضوعية للوجود (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً). وهاهو الله عز وجل يقرر الفصل التام بين كرامة الإنسان ومادية المجتمع (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً). فالمرأة عنصر كامل ووحدة مستقلة في تكوين المجتمع المسلم لها جميع حقوقها كما للرجل حقوقه سواء كان رجل مقعد عاجز عن العمل أو كانت المرأة عجوزاً لا تملك لأهلها ومجتمعها غير الدعاء لهم بظاهر الغيب.
إن إعطاء المرأة حقوقها كاملة يتضمن حق اختيار مصيرها ودورها في المجتمع من خلال قنوات اتخاذ القرار في المجتمع المدني. فللمرأة الخيار في أن تكون ربة منـزل تعتني بزوجها وأولادها كحق من حقوقها، كما يجب أن يكون لها الخيار في أن تكون ما شاءت إسهاماً منها في مجتمعها بحسب ما تراه الأنسب لها. ويختلف هذا المفهوم جذرياً عن أي محاولة تدفع بالمرأة دفعاً نحو خيارات لم تستشر فيها متذرعين بمفهوم التقدمية والمعاصرة.
وبعد أن تثبت هذه الحقوق، يصبح عندئذٍ التدافع الاجتماعي والتدرج في العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة في المجتمع هو الحاكم على سرعة أو بطء استغلال المرأة لهذه الحقوق وبالكيفية التي تراها، فالمرأة المكملة للرجل تعرف أنها، من خلال تصرفاتها واختياراتها، سوف تضع نفسها في أطر تحدد خياراتها وعلاقاتها المستقبلية لمجتمعها ولنظرة المجتمع إليها. وعلى سبيل المثال، فإن للمرأة حق مطلق في أن تدرس أي علم نافع شاءت كالطب والهندسة أو الطيران، وللرجل أن يختار نوع المرأة التي يقبل أن تكون شريكة حياته، امرأة عاملة أو ربة بيت متعلمة أو جاهلة. إن هذا التدافع الاجتماعي هو ما يجعل قبول كل طرف بالأخر يمر عبر مراحل تطور طبيعية من خلال خيارات يقبلها البعض ويرفضها الآخر وتضحيات عبر هذه المسيرة الاجتماعية وتبدل تدريجي لمفهوم العلاقة بين الرجل والمرأة في كل ذلك. وبالرغم من إعطاء المجتمع هذه الفرصة لتطور طبيعي يجب أن لا يمس ذلك حقوق الإنسان في المجتمع امرأة كانت أم رجل وحق الاختيار.
وإن كنا قد أسهبنا في حقوق المرأة فما ذلك إلا تقعيداً لمثال واضح يفرق بين الحق الطبيعي للإنسان وموقف المجتمع من ذلك الحق. وهكذا الحال لكل حق أقره الله للإنسان ولم يفرق فيه بين امرأة ورجل، يجب أن يكون حقاً مقدساً لا يمس من قبل سلطة أو طغيان أغلبية أو فئة متنفذة في المجتمع مهما كانت التبريرات والتي عادة ما تساق في إطار حرمان فئة من فئات المجتمع أو المجتمع كله عن حق أقره الله وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. يجب الحفاظ على هذه الحقوق وقدسيتها مهما داعبت مخيلة الإنسان شهوة منطقة الأمور في إطار ديني كدرء المفاسد أو جلب المصالح أو إطار اجتماعي كالتذرع بمجتمع قبلي أو مجتمع غير متعلم أو التطور التدريجي للمجتمع.
وكيف يستوي كل ذلك بواقع الحال الذي نعيشه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟. يجب الاعتراف إن ثمة فوارق حقيقية بين تعاليم ديننا الحنيف وواقعنا المعاصر والذي نعزوه إلى فساد تطبيقاتنا لتعاليم الدين محاولين تطويعه لمرادنا وشهواتنا الآنية قصيرة المدى غير مدركين لعظم الذنب وبشاعة الجريمة التي نرتكبها في حق هذا الدين العظيم.
وقد يغمر النفس البشرية، ويتملكها شعور جامح بالدفاع عن دينها محاولة تبرير جميع الأخطاء التي يواجهنا بها الغرب فنعزز بذلك مفهومه عن المجتمع المسلم الرافض للحوار والتغيير والتطور. إن الحق والحقيقة ليست ملكاً لأحد وإن جاءت على لسان ألد أعدائنا فهي مبذولة لكل من أراد أن يتبناها ويقوِّم نفسه بها مهما كان مراد الغرب من ذلك ومهما كانت سوء نيته تجاهنا فالحكمة ضالة المؤمن والحق أحق أن يتبع.
والله من وراء القصد
E-mail: alim@alimlaw.com
نشرت بالعدد (15206) من جريدة المدينة، يوم الجمعة بتاريخ 28 شوال 1425ﻫ الموافق 10 ديسمبر 2004، بصفحة الرأي.