ملحمة الحق

د. باسم عبد الله عالِم

 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبهما حباً شديداً, تهوى وتتوق نفسه الشريفة لرؤياهما وإذا ما دخل عليه أحدهما أو كلاهما يتهلل وجهه الشريف. يسعى إليهما وإلى أمهما بمزيج من ذلك الحب والحنو الأبوي النبوي. كيف لا, وهم خلاصة ذريته وعترته الشريفة, ولكنها الأقدار شاءت أن تجعل من سيدا شباب أهل الجنة مثلاً يحتذى به يمثل كل منهما مدرسة قائمة بذاتها تضيء للأمة درباً من دروب صناعة الحياة لتسير عليه جموع المسلمين بحسب مقتضى الحال والنظرة الثاقبة إلى المآل.

لقد كان سيدنا الحسن رضي الله عنه وأرضاه عاملاً رئيساً في إطفاء نار الفتنة ولم شمل الأمة ووحدة صفها وجمع كلمتها، فقد اطّلع على ما آلت إليه أحوال البلاد و العباد وتأمل فداحة مصابه بأبيه كرم الله وجهه وهوان كل أمر بعده, فارتضى أن يتنازل عن إمامة المسلمين حقناً للدماء ليعود للأمة ذلك النسق والتسلسل الطبيعي في الخلافة فقدم على نفسه سيدنا معاوية رضي الله عنه ليخلفه من بعده إلا أن المنية عاجلته فمات عنها. لقد كان حقاً صاحب الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في عام الجماعة وهو صاحب البيعة الشرعية التي لا ينازعه فيها أحد. ولكأني أستمع إلى الحوار الدائر بين أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان وأحد قادة جنده إذ يقول قائد الجيش: (لقد نصرك الله يا أمير المؤمنين) فيقول له سيدنا معاوية: (والله إن مع الحسن بن علي مائة ألف سيف يغضبون لغضبه لا يسألونه عن أي شئ غضب إلا أنه أكرم مني فآثر الجماعة ونزع إلى الصلح حقناً للدماء). لقد كان سيدنا الحسن ولا يزال مضرب المثل في السماحة وتغليب مصلحة المسلمين مخلصاً النية في القول والعمل في سبيل ذلك.

أما سيدنا الحسين رضي الله عنه وأرضاه، ذلك الشهيد الذي روى أرض كربلاء بدمائه الطاهرة فقد خلد بموقفه الشجاع وبتضحيته بنفسه ملحمة يقتدي بها كل صاحب رسالة لا يقبل الضيم ويأنف من الظلم وحمل الناس قسراً في سبيل أهواء ومطامع دنيوية. فقد اطّلع على حال الأمة بعد وفاة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان وتلك الخطيئة الكبرى الناجمة عن توريث الخلافة لتتحول إلى ملك عضود يتوارثه الأبناء عن الآباء وينحسر مفهوم الإمامة في من لم تقرر الأمة مسبقاً رغبتها في إمامته. ونظر سيدنا الحسين بعين بصيرته الثاقبة فرفض أن يمر هذا الحدث مرور الكرام وأصر أن ينحت في ذاكرة التاريخ وضمير الأمة الحي ملحمة لا تنسى بين الحق والباطل وموقفاً صارماً ليكون منارة لكل دعاة الحق ورافضي الظلم ليقرر بأن الغلبة الآنية للظلم والتضحيات الجسيمة التي يتكبدها أصحاب الحق إنما هي تضحيات لازمة ليثمر الحق ولو بعد حين.

إن موقف سيدنا الحسين رضي الله عنه شارة واضحة إلى الأمة من بعده بأن حق الأمة في الحياة لا يكون إلا بتضحيات جسيمة وليس الخلل في ميزان القوة لصالح قوى الظلم والطغيان دليلاً على الرضى الرباني لأحد الطرفين أو مجانبة الحق من الطرف الآخر ولكنها أقدار الله وحكمته التي يعرفها البعض ببصيرتهم وتخفى عن الكثير ممن سواهم. إن غياب روح الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه يؤدي بالأمة إلى حقب طويلة من الفساد السياسي الذي يقودها إلى الانهيار إن عاجلاً أو آجلاً مهما كانت عوامل القوة في أوجها. وعلى خطى الحسين رضي الله عنه سار الكثيرون لا يبالون بما يصيبهم في سبيل الحق وإعلاء كلمته فقد تبعه ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن الزبير وتبعه من بعده سعيد بن الجبير رضي الله عنه ثم جاء عصراً للأمة ليعاني فيه كل منهم من الظلم والاستبداد المتجسد في مختلف مناحي الحياة والحكم فوقف كل منهم مواقف حازمة حاسمة يذود عن الدين وأهله. فهذا الإمام الأكبر أبو حنيفة النعمان يدخل السجن ويتبعه في ذلك إمام دار الهجرة وهذا إمام أهل السنة والجماعة سيدنا أحمد بن حنبل يعاني ضرب السياط ويتحمل آلامها ووحشة السجن من أجل كلمةٍ خوفاً على المسلمين من فتنة تذهب بدينهم وإيمانهم. وتمتد السلسلة الذهبية عبر العصور فمهما حاول الطغاة طمس الحقيقة والاستعلاء يقيض الله لهذا الدين وهذه الأمة من يخلف الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه مضحياً في سبيل الله ذائداً عن حياضها وحقوقها. وإن ذكرنا سادتنا الذين تقدموا في القرون الأولى فلا ننسى المتأخرين منهم الذين قيضهم الله سبحانه وتعالى لتجديد أمر هذا الدين واستخلاف الإمام الحسين في مواقفه العظيمة على كل صعيد من أصعدة الأمة، فإن تقدم أمثال الحسن البصري وعبد الله بن المبارك وعبد القادر الجيلاني وأبو حامد الغزالي ومسلمة بن عبد الملك وغيره من قادة الفتوحات فلا ننسى الإمام الجويني والعز بن عبد السلام وإبن تيمية كما لا ننسى محمد الفاتح ونور الدين زنكي والناصر صلاح الدين والمظفر قطز فليس هؤلاء المتأخرين إلا ثمرة طيبة لمواقف الحق التي وقفها سادتنا المتقدمين وإمامهم سيدنا الحسين رضي الله عنه وأرضاه. وتدور عجلة التاريخ لتقدم الأمة من جديد رجالاً وقفوا مواقف للحق وتركوا دنيانا الفانية ليلاقوا وجه ربهم الكريم زارعين بذلك بذور الخير والحق ليرعاها الله سبحانه وتعالى ولتثمر بعد أجيال قادة ورجالاً يجعل الله النصر على أيديهم ومنهم الإمام محمد عبده وأبو الأعلى المودودي والشهيد حسن البنا والشهيد سيد قطب والإمام شامل والرئيس الراحل على عزت بيغوفيتش وغيرهم من جنود الحق ممن لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم.

لقد أثارت ذكرى عاشوراء وملحمة كربلاء في نفسي شجوناً عز علي أن تمر مرور الكرام دون أن نقف على أعتابها ودروسها وعبرها، إنها ملحمة الحق والباطل وسر حياة كل مسلم لينتهج ذلك النهج ويسير راشداً على ذلك الدرب فليس ثمة تضحية في سبيل الحق إلا وكانت مشروعاً مستساغاً بالرغم من إنقلاب موازين القوة وصولة الباطل وغلبته، فالتدبير الرباني يقدر للأمة الزارعين المضحين ويقدر لها من يحصد ذلك الغرس الطيب وللجميع عند الله مكافأة دون حساب للنتائج. وهذا سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بأن سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر ينصحه فقتل على يديه. فالأمة أفراداً وجماعات مكلفة بالسعي والله سبحانه وتعالى متكفل بالنتائج.

والله من وراء القصد

E-mail: alim@alimlaw.com

1
2497
تعليقات (0)