الزاوية: صناعـة الحيـاة . . . أيهـا الناس

د. باسم عبد الله عالِم
تقع الكلمات موقعاً صامتاً في النفس البشرية ويزيد من صمتها تكرارها دون تدبر لمعناها ثم تتدخل القدرة الإلهية في لحظة من لحظات الصفاء النفسي لتهز هذا الكيان البشري فيستفيق على أبعاد ومعاني لم يكن ليدركها لولا هذه النفحة الربانية. وكذا الأمة الإسلامية تمر عليها العقود وهي تحافظ على طقوس وشعائر دون ما عميق تدبر في معناها ومآلها. وكما يحدث في النفس البشرية يقيض الله للأمة أحداثاً تضرب في عمق ضميرها فتصحو على كشف جديد لتصبح الكلمات الصامتة وقد كشف عن حقيقتها وما وراءها من معان جديدة وكأن الأحداث التي أرادها الله لهذه الأمة نفحة إلهية لتستعد الأمة لما بعدها من أقدار الله.

والمتدبر لأحداث التاريخ وصراع الأمم والحضارات يدرك من خلال الأحداث المصاحبة للصراع طبيعته ومواصفاته، فعادة ما يكون الصراع الحضاري صراع من يحاول فرض هيمنته وفلسفته الحضارية على العالم من حوله ولم تكن الفتوحات الإسلامية سوى نمط من أنماط فرض الحضارة إلا أنها تجاوزت الدافع التقليدي لفرض حضارة على أخرى من الذاتية (والأنا) إلى الكل و(نحن). ولعل هذه الانطلاقة الحضارية هي سر النداء النبوي في حجة الوداع حين خاطب المسلمين الذين اشرأبت أعناقهم إليه (صلى الله عليه وسلم) متلهفين لكلماته الخالدة في ذلك الموقف العظيم إذ يناديهم (أيها الناس) فتجاوز (صلى الله عليه وسلم) بكلمة واحدة الأنا الذاتية إلى رحاب الدعوة الشاملة لتعم البشرية جمعاء. إن عبقرية الزمان والمكان لا يرتقيان إلى تلك المكانة العظيمة وإلى مستوى الإلهام الرباني الذي جرى على لسان سيد الوجود (صلى الله عليه وسلم) فتتحول الأمة في لحظة حاسمة من أمة دفاعية تبحث عن موطئ قدم تثبيتاً لدعائمها إلى أمة مبادرة ترى في كل نفس بشرية ضالتها التي تسعى لهدايتها وترى في هذا الوجود مسجداً وطهوراً. إن حجة الوداع وفتح مكة كانا رمزاً ومنهاجاً لكل الفتوحات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.

واليوم وقد تبدل حال الأمة ظاهرياً إلى حالة من الضعف والوهن، تأسى النفس المسلمة على واقع الحال الذي تردت إليه الأمة، بات يرى الكثير من المفكرين وأصحاب الرأي أن حال الأمة هي حالة دفاعية أمام هجمات تتارية من الغرب الصليبي الذي يحاول فرض هيمنته وحضارته ليستحيل العالم الإسلامي إلى تبعية دائمة ودونية تجعله قابلاً للاستغلال أو التهميش. ولكننا في حقيقة الأمر أمام ظاهرة فريدة قلما وجدت عبر تاريخ البشرية المكتوب، فظهورها لا يكون إلا بظهور الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وهي ظاهرة هجوم القوي ظاهرياً على الضعيف ظاهرياً من أجل الإحتواء ووقف زحفه المضطرد ونموه واشتداد عوده، فقد كان أنبياء الله صلوات الله عليهم يعانون من هذا الإبتلاء بشكل جماعي وإن كان ذلك على صعيد الجماعة والقبيلة وفي إطار أشبه بالفردية. ولأننا أمة منحت رسالة ربانية تتجاوز حدود المكان والزمان فكان لا بد لهذا الابتلاء أن يتجدد كلما حان تجدد هذا الدين واستعادة عافيته.

إن أدبيات هجوم الحضارة الغربية على عالمنا الإسلامي في حاضرنا هذا يدل دلالة واضحة على القهر والتوجه الغربي إذ لا تحمل أدبياتهم وإعلامهم أي روح تبشيرية يمنون بها عالمنا الإسلامي بحياة أفضل وأسمى تبعاً لعقيدتهم ولكنها على العكس من ذلك تحمل رسالة واضحة لا تخفي على أحد فهي ظاهرة في الخطب والصحافة والإعلام المرئي وتصريحات المسئولين وتصب جميعها في إطار وقف الزحف الإسلامي تحت مسمى الإرهاب أو التطرف أو العنف وكل ذلك من أجل الحفاظ على مصالح الغرب وحضارته وديمومة رفاهية أبناء الحضارة الغربية فطالما نعت المسلم ونعتت الحركة الإسلامية في إطارها التنظيمي والشعبي بالتطرف والإرهاب والأصولية التي تهدد الأمن القومي وسعادة الجنس البشري ورخاء العالم الغربي، ولطالما صرح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعه من المسئولين وقادة الدول الغربية الأخرى بأن حملاتهم الهجومية إنما هي في إطار الحفاظ على حدود الحضارة الغربية وتوسعاتها ومكتسباتها الظالمة لغيرها من الحضارات. وبالرغم من الولع الكامن في النفوس على ما أصاب أخواتنا في فرنسا إلا أن تدخل رئيس الدولة الفرنسية لمنع غطاء بسيط على رأس طفلة واصفاً الظاهرة بأنها تهدد كيان العلمانية وأسلوب الحياة الفرنسي يجعلني أحس بابتسامة واهنة يكاد يخفيها قلبي المكلوم تملأني يقينا، بأن هذا الدين وأهلة ظاهرون لا محالة بعز عزيز أو بذل ذليل، وهذه برلمانات أوروبا لا تخلو جلساتها من مناقشة الخطر الإسلامي الداهم على أسلوبهم في الحياة وطرق وقف هذا الخطر المزعوم فتارة يطالبون بدمج المسلمين في المجتمعات الغربية قاصدين بذلك تخلي المسلم عن دينه وأدابه ومبادئه وأخلاقه وتارة يدعون إلى طردهم خارج حدود أوروبا. إنه حقاً جنون المذعور الذي يعلم علم اليقين أن نجمه إلى أفول وأن ريادته الحضارية آخذة في الإنحسار أمام دين قدر الله له أن يتجدد ليظل عاملاً فاعلاً في تاريخ الإنسانية مهما بدا ضعيفاً منكسراً في وقت من الأوقات.

وكأني اليوم أنظر إلى حالنا وحال العالم من حولنا، فلا أرى إلا بطحاء مكة وقد تجمع صناديد الكفر حول عبد حبشي ضعيف لا يملك من أمره شيئاً يحاولون بشتى النحل أن يثنونه عما يؤمن به وكأني أسمع من وسط هذا التجمهر الكثيف والغضب العارم والحقد الأعمى صوتاً خافتاً ولكنه ثابت ثبوت الحقيقة الدامغة ينادي (أحد أحد، أحد أحد) وما الأمة اليوم إلا على خطى ذلك السيد العظيم بلال بن رباح تنادي وسط هجمات الغرب وسعاره وحقده الدفين (لبيك الهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) وكأن هذا النداء يعود بنا إلى الحقيقة الكامنة وراء خطابه صلى الله عليه وسلم للمسلمين في حجة الوداع (أيها الناس) ولكأني بجبريل الأمين ينزل على سيد البشر فيبلغه قول الله عز وجل: ((يا أيها الذين آمنوا إصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون))

والله من وراء القصد،،،

----------------
E-mail: alim@alimlaw.com
نشرت بالعدد ( 14891) جريدة المدينة الجمعة 08 ذوالحجة 1424ﻫ الموافق 30 يناير 2004م بصفحة الرأي

1
2237
تعليقات (0)