إختلاف القيم

اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء

أهم فرق بين إنسان وإنسان هو نظرته إلى الأشياء وتقويمها , هذا هو الفرق بين العالم والجاهل , والراقي والوضيع , والحكيم والأحمق , وسلوك الإنسان في الحياة دليل على قائمة القيم المنقوشة في أعماق نفسه . فإن رأيته يسعى إلى تحصيل المال حيث كان , ومن أي طريق كان , ولا يعبأ بالنزاهة والشرف والكرامة دل ذلك على أنه يضع تحصيل المال أعلى " قائمة القيم " والشرف والكرامة في أسفلها , وإن رأيته يعنى بالنظافة أو لا يعنى بها , وبالمطالعة في الكتب أو عدمها , وبالمناظر الجميلة أو إهمالها , فمعنى ذلك من غير شك _ تحديد موضعها في " قائمة القيم " .

وفائدة التربية بوسائلها المختلفة , والتعاليم بأساليبه المتعدده إنما هو هذا التقويم , فالذي رُبي تربية صالحة , وعلم تعليما صحيحاً لا يمتاز عمن ربي تربية فاسدة , وعُلم تعليماً سيئاً , إلا أن الأول قد ركزت في ذهنه قائمة لقيم الأشياء مرتبه ترتيباً يتفق والمثل الأعلى , والثاني قد غرس في نفسه قائمة تتفق والمثل الأسفل .

وهذه المُثل التي تشتق منها القيم تختلف بالختلاف العصور والجماعات وروح الزمن , ففي الجماعات المتدينة تُشتق القيم من الدين , وترتب قيم الأشياء حسب أوامره ونواهيه ؛ فطاعة الله في أول القائمة , والأخلاق تقوِّم حسبما ورد في الدين ، وفي الجماعات التي تُفلسف حياتها حسب النجاح في الدنيا فقط ترتب " قائمة القيم " ترتيباً آخر عماده التجارب الدنيوية وما يصول منها إلى النجاح وما لا يوصل , فتجعل في أعلى القائمة الحرية , والمحافظة على الشخصية ؛ وتدبير الثروة , وطرق تحصيلها وإنفاقها , والسعادة في الحياة والتسامح , وما إلى ذلك .

بل أرى النزعات والحروب وانقسام العالم ؛ إنما منشؤه اختلاف في النظرة إلى الحياة , التي نتج عنها اختلاف في تقويم الأشياء , والنظر إليها _ فهناك من يقوِّم أكبر تقويم للمساواة بين الناس , والعدالة الاجتماعية وفرض النظام الاجتماعي الذي يحقق هذه المساواة وهذه العدالة ؛ ويقوّم الأشياء الجزئية حسب هذا المبدأ الأساسي الكلي , وهناك فئة أخرى تنشد ثروة الشعب , وعظمة الجنس , وحب الاستعمار والفتح , وقوة الجيش في الجو والبر والبحر , وما يتبع ذلك من الإشادة بفضيلة النظام والطاعة , وعلى هذا الأساس تقوّم الأشياء , وهكذا اختلفت وجهات النظر , فاختلفت مقاييس التقويم , وأختلفت نظم التربية التي تحقق هذه الأغراض , وترمي إلى صوغ الشعوب حسب المبادىء , فكان الخصام , وكانت الحرب فحرب المدافع والقنابل والدبابات والطيارات نتيجة حتمية لحرب الفلسفات وحرب التربيات .

إن الأمة المتماسكة هي التي تخضع لنظام واحد , يبث في أفرادها " قائمة للقيم " واحدة , تكون أمام نظرهم جميعاً , وتؤلف بينهم جميعاً , والأمة المنحلة هي التي تسمح لقوى مختلفة ونضم مختلفة أن تضع " قوائم للقيم " مختلفة تفرق بين أبنائها . فمثلاً في المدارس العامة , يعلم الطلبة تعليما يرسم للقيم خريطة للحياة خاصة , وفي المدارس الخاصة التي تضع لطلبتها خريطة أخرى مخالفة تمام المخالفة للمدارس العامة , ثم مدارس أجنبية - انتشرت مؤخراً - ، تلون خريطتها بلون ثالث مخالف اللأولين , فينشأ عن ذلك حتما اختلاف الأنظار في قيم الأشياء , واختلاف السلوك تبعاً للتقويم , وسوء التفاهم بين الجميع لاختلاف المثل العليا لهم .

وهكذا الشأن في الخلاف الواسع بين النظم الاجتماعية لسكان القرى وسكان المدن , والأغنياء والفقراء , والمتعلمين والجهلاء , مما ليس له نظير في الأمم المتماسكة , فإن كان عندها فروق ففروق ضيقة ليست بالسعة التي عندنا , وبعبارة أخرى إن الاختلاف في التقويم عند الأمم المتماسكة ليس بمقدار الاختلاف في التقويم عندنا .

ونتج عن ذلك ضعف الرأي العام , فإن قوته تنشأ من الثقافة الواسعه الموحدة كما تنتج عدم التفاهم في المسائل العامة , فالخلافات الكثيرة في مجالسنا وآرائنا ووجوه حياتنا منشؤها _ في الأعم الأغلب _ الاختلاف الواسع في التقويم , والاختلاف في التقويم منشؤه الاختلاف الواسع في التكوين .

على نمط أوسع من هذا كان الاختلاف العالمي . فهناك خلافات واسعة في التربية ونظمها ,هناك من يربى على أساس النزعة القومية وقوة الأمة وسيطرتها , وهناك من يريد أن يربى على أساس النزعة الإنسانية والأخوة العامة , ثم هناك من يريد أن يربى على أساس النزعة العقلية المادية البحتة , غير عابىء بالأديان والتقاليد والحياة الروحية ومنهم من يريد أن يربى على أساس العقل والروح معاً , والتقاليد والتجديد معاً , وهكذا , وكل منهج يحارب الآخر .

ومن الناحية الاقتصادية هناك من يؤيد الملكية الخاصة , وهناك من يريد أن يهدرها تماماً , وهناك من يريد أن يتوسط , ثم هناك من يريد حرية التجارة وحرية الأسواق , والنظر إلى ذلك نظرة عالمية , وهناك من يريد إخضاع التجارة والأسواق للنزعة القومية فيتدخل في التجارة وفي الأسواق وهكذا .

ومن الناحية الاجتماعية هناك فلسفة ترى أن الحرية يجب أن تمنح كاملة لأفراد الأمة , وألا تقف أمامها السلطات , فلا تحدها ولا تتدخل فيها إلا بقدر , وسينشأ عز ذلك الظالم , بحكم طبيعة الشعب ؛ وترى فلسفة أخرى أن النظام واستعمال السلطة في تعويد الشعب إياه يجب أن يسبق الحرية ولا تنشأ الحرية الصحيحة إلا من فرض النظام وسهر السلطات عليه حتى تتربى الأمة .

ثم إن المدينة الصناعية الحديثة والمخترعات الجديدة تغلغلت في حياة الناس , وغيرت تقويم الأشياء . ولم يتأثر بها الناس على السواء بل كان منهم محافظون حافظوا _ إلى حد ما _ على القيم القديمة , وأحرار غيروا تغيراً كبيراً , واسرفوا في تقويم الجديد , مما كان مثار خلاف إيضاً بين اتجاهات العالم .

كل هذه وكثير أمثالها خالفت بين الجماعات في التقويم ؛ ثم تبلورت فقسمت العالم إلى معسكرات تستعد اليوم للحرب كما كانت تستعد من قبل.

إذا كان أكبر سبب في هذه المنازعات هو اختلاف النظر الناشئ عن اختلاف التقويم , فهل هناك أمل في العلاج ؟

إن ما أحدثته ثورة وسائل الإتصالات الحديثة من تقريب المسافات بين الأمم ؛ وكثرة الامتزاج والاختلاط بينها , وشدة الاتصال في معرفة كل أخبار الآخر وكثرة اللقاءات والمؤتمرات وما إلى ذلك ؛ عامل كبير من غير شك في تقريب وجهات النظر , وتقريب تقويم الأشياء والآراء مع الأمم الأخرى وبالتالي يمكننا نشر الدين الإسلامي .

1
198
تعليقات (0)