محمد صلى الله عليه وسلم والتوحيد

أحمد أمين
إن أردنا أن نلخص الإسلام في كلمة قلنا : " التوحيد " وإن أردنا أن نوجز عمل النبي صلى الله عليه وسلم من بدء مبعثه إلى يوم وفاته , قلنا : " العمل على تحقيق التوحيد " . وإن أردنا وصف الناس عند بدء دعوته صلى الله عليه وسلم ، ووصفهم عندما أسلم روحه لخالقها , قلنا : إنه تعدد وتفرق لا حدَّ له أخذ يزول شيئاً فشيئاً , ويجتمع شيئاً فشيئاً ,حتى حل التوحيد محل التعدد . هذه هي العرب في جزيرتها يوم تسلَّمها محمد صلى الله عليه وسلم , قبائل متعددة لا تربطها رابطة , لكل قبيلة لغتها , ولكل قبيلة صنمها , ولكل قبيلة مكانها ومرعاها , وشيخها وتقاليدها ؛ إن عرفت قبيلة قبيلة أخرى فإنما تعرفها يوم تغير عليها , ثم يكون الحرب والقتال والأخذ بالثأر , وكفُّ المغلوب على مضض , وكف الغالب حتى ستعد للوثبة , وهكذا .

غرض الفرد في الحياة أن يأكل ما يجد , وينهب إذا لم يجد , ويقاتل مع أفراد القبيلة إذا قاتلت ؛ وغرض شيخ القبيلة أن ينعم بطيبات المغانم ويرأسها في القتال ؛ وغرض القبيلة أن تستعد للوثبة يوم تغير , وللدفاع يوم يغار عليها !! وهذا ملخص حياتها .

فماذا فعل الإسلام لتوحيد الكلمة , وماذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أسس الإسلام عقيدة عامة يجب أن يعتنقها كل مسلم , فليس الإله إله قبيلة , ولكنه رب العالمين ؛ وليس الفخر بالقبيلة ولا بالأنساب ولا بالمال ولا بالبنين , ولكن بالعمل الصالح , والعمل الصالح هو ما يُحسن العلاقة بين الإنسان وربه , والإنسان والإنسان , وكل إنسان مسئول عن عمله : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره , ومن يعمل مثقال ذرة شراًّ يره ) الزلزله 7-8 . الغني والفقير سواء , والقرشي والباهلي سواء , وبنت محمد صلى الله عليه وسلم وبنت غيره سواء , والرجل والمرأة سواء ؛ لا يعبأ الله بقبيلة ولا يعبأ بنسب _ لا لات ولا عزَّى , ولا قرابين ولا أوثان ؛ ولكن لاإله إلا الله , هو الخالق وهو المحاسب ؛ وهو الغرض : له مافي السموات وما في الأرض. إذاً فالفروق بين القبائل لا معنى لها متى اتحد الغرض واستوت الأفراد , والأصنام التي تميز بين القبائل لا معنى لها لأنها آلهة باطلة , والاعتزاز بالحسب والنسب والقبيلة لا معنى له لأنه لا يدخل في ميزان الأعمال . وطبيعي أن تُحدث مثل هذه الدعوة اختلافاً بيناً بين مؤمن بالتعاليم الجديدة وكافر بها. ولكن مهما كان فقد نشأ تطور جديد حتى في الخلاف ؛ فبعد أن كان الخلاف بين قبيلة وقبيلة أصبح الخلاف بين معتقدين بالدين الجديد ومحافظين على الدين القديم , وهذه طائفة مهما تعددت قبائلها , وتلك طائفة مهما تعددت قبائلها . وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين إخوة , وأن الكفر ملة واحدة . وكان لهذا الخلاف فضل , إذ جعل جزيرة العرب معسكرين اثنين بعد أن كانت المعسكرات بعدد القبائل .

وجدت في الدعوة الإسلامية نقطة ارتكاز , قوامها الرسول وطائفة معه قليلٌ عددها ، قويّ إيمانها , وتدعو دعوتها في سلام , وكل وسائل إقناعها الحجة والبرهان . ماذا تغني اللات والعزى , وما يغني التكاثر بالمال والبنين , وما الفخر بالنسب إلى نحو ذلك ؟! ولكن القوم خرجوا من مقارعة الحجة بالحجة إلى مقارعة الحجة بالسيف , فالرسول صلى الله عليه وسلم يُضطَهد , والمؤمن يعذَّب والدعوة تُكبت .

فلا بد _ إذاً _ من مقابلة القوة بالقوة , والسيف بالسيف , والحرب بالحرب . فاتسعت الدائرة , وأصبحت العقيدة الجديدة تحميها القوة المادية بجانب القوة الروحية , ويتمثل جيشها في المهاجرين والأنصار , كما احتمت العقيدة القديمة بالقوة , وتمثل جيشها في صناديد قريش . ووجد مركزان للقوتين : " المدينة " للمسلمين و " مكة " للكافرين .

إذاً لا بد من الدعوة ولا بد من قوة تحمي الدعوة . وظلت القوتان تتقاتلان نحو عشر سنوات انجلت عن نصرة الإسلام وتوحُّد جزيرة العرب تحت لوائه , تدين كلها بدين واحد , وتؤمن بعقيدة واحدة , وتخضع لنظام واحد , ويدوِّي في أرجائها كلها : لا إله إلا الله محمد رسول الله. لم يكن السيف وحدة هو القوة الفعالة , فقد كان سيف أعدائه أقوى من سيفه صلى الله عليه وسلم , ولا كانت القوة المادية وحدها هي العاملة في هذا التوحيد . وإنما كانت هناك خطط توضع بعيدة الغرض صحيحة القصد , تعين على الوصول إلى هذه النتيجة , فما هي ؟

أول كل ذلك تعاليم الدين نفسه , فاتحاد الغرض , وهو إعلاء كلمة الله الذي يتمثل في اتحاد القبلة وتوجه المسلمين كلهم جهة واحدة , جعلهم قلباً واحداً يسعى بذمتهم أدناهم , وهم يد واحده على من سواهم , ثم ضَمُّ الآخرة إلى الدنيا في الحساب جعل الحياة رخيصة في سبيل هذا المبدأ , فهو يجاهد بكل قلبه وبكل قوته , فإن عاش عاش سعيداً , وإن مات فهو أسعد , فالتضحية العظيمة في النفس والمال اتحدت مع الأنانية في سعادة باذلها , فإذا دَميِت الإصبع قال قائلهم :
ما أنت إلا إصبع دميتِ *** وفي سبيل الله ما لقيتِ
وإذا ذهب المال قال صاحبه " إن المال عرَض زائل "
وإذا أشرف على الموت في الجهاد تمثل بقول الشاعر :
لبّثْ قليلا يلحق الهيجا جَملْ *** لا بأس بالموت إذا الموت نزل
ثم قيادة حكيمة , حازمة رحيمة , لا تضحي بجندها لخيرها , ولكن تضحي نفسها وجندها لعقيدتها ؛ ولا تسخِّر جيوشها لتجلس على أكداس غنائمها , وإنما غنائم الجيش له وللمسلمين , وقائدهم أحدهم ؛ ثم قوة قي القيادة عظيمة , علّمت عظمتها الجنود كيف يطيعون ولا يختلفون , فلكلٍّ مركزه كما رسمه القائد الأعلى ولوكان عمر في جيش أسامه , وكلُّ يؤدي واجبه ولو أُمّر عليه عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.

فاتحاد الغرض وحَّد القلوب ووَحَّد بين الرئيس والمرؤس , ووحّد في التضحية بين القائد والجندي , فأصبحت جزيرة العرب واحدة , ولأن كل شىء في إدارتها كان يرمي إلى التوحيد ؛ الفرص المتكافئة لكل رجل ولو كان من أوضع قبيلة , ليتفوق بحسن عمله . ومَن بلال ومن صُهيب , ومن سلمان الفارسي , ولولا تعاليم الإسلام بإهدار الدم والجنس والقبيلة , والمناداة بأن أكرمكم عند الله أتقاكم ، لما توحد الغرض؟!.

ليس هناك نظام للطبقات تُؤسس على الغنى والفقر , ولا طبقات تؤسس على الفروق بين الحاكم والمحكوم ولا طبقات تؤسس على الدم والحسب والنسب ؛ بل كلُّ يقوَّم بعمله و " رب أشعث أغبر ذي طمِرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبرّه " . وراء المادة روح , ووراء العمل قلب ؛ ووراء الأعمال الظاهرة بواعث نفسية , وأمام كل مسلم غرض هو ؛ إعلاء الحق وكلمة الحق وتطهير النفس ؛ وهذا الغرض الواحد أمام الجميع يُوَحِّد الأعمال وإن اختلفت مظاهرها .

ثم هذا هو الإسلام , وهذا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينادي بالأخوة في العقيدة , ويعمل عليها وينشرها في جو الجزيرة العربية ليستنشقها كل مسلم " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم " و " المسلم أخو المسلم "و " المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى " و " المؤمن يألِف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف " و " وخير الناس أنفعهم للناس " و " المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه " وهكذا .

ومنذ أن ظهر الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين الصحابة ويراعي في ذلك مزاج المتآخين , وهدم الفروق المالية والقبلية , فهذا مكّن لهم _ في تعاطفهم وتوحدهم _ أخوّة بين الفرد والفرد , وبين الفبيلة والقبيلة , وبين الفرد والحاكم , وبين الرجل والمرأة , حتى كادت الأخوة تكون شعار الدين .

ثم القرآن وحّد اللغة كما وحّد الدين , فضعفت اللهجات الأخرى غير لهجة قريش , وماجت الجزيرة العربية بأهلها في الحرب والسلم , وكثر تقابلهم وتحادثهم وامتزاجهم , وكثرت تلاوتهم للقرآن والحديث , فإذا اللغة متحدة أو متقاربة كالدين .

لقد تسلم " محمد صلى الله عليه وسلم " جزيرة العرب وهي " أقطاع " تقتطع كل قبيلة منها قطعة تستقل بها وخلّفها أمة واحدة ، في دينها ، وفي لغتها ، وفي غرضها , تخضع لنظام واحد وتشريع واحد , وليس هذا الأمر باليسير ؛ فتوحيد بلاد الفرس في أمة أو بلاد الرومان في أمة , أيسر ألف مرة من توحيد سكان جزيرة العرب في أمة ِ , لبعد ما كان بين بعضهم وبعض في الأرض وفي النفس , ولأنهم لم يخضعوا لنظام سابق , ولم يمرنوا على الخضوع لحاكم ولا لإطاعة أحد غير شيخ القبيلة , وكل واحد منهم ملِك في نفسه معتز بدمه وعصبيته ولغته وإلهه ؛ فتوحيد أشتات كهؤلاء وجعلهم أمة فيها كل خصائص الأمة معجزة من المعجزات . قال تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا , وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) آل عمران 103.

وقد أعلن محمد صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع الأسس التي بنى عليها توحيد العقيدة , وتوحيد الجزيرة , ففيها :
" أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " .
" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم " .
" فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها " .
" إنما المؤمنون إخوة , ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه " .
" إن ربكم واحد , وأباكم واحد , كلكم لآدم وآدم من تراب , إن أكرمكم عند الله أتقاكم" .
" اتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً " .
هذه هي وحدة العقيدة , وهذه هي الأخوة !!
ثم أعلن هدم نظام الطبقات من أساسه , فلا ربا , لأنه يساعد على نظام طبقات من غني وفقير , ولا فخر بحسب , لأنه يعين على تأسيس طبقات على أساس الدم , فقال :

" إن ربا الجاهلية موضوع وإن أول ربا أضعه ربا عمي العباس , ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون " . " وإن مآثر الجاهلية موضوعة , غير السِّدانة والسقاية " .

ثم أشاد صلى الله عليه وسلم بهذا النظام الذي أسس على هذه المبادئ وأوجب التمسك به فقال صلى الله عليه وسلم : " ولا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض , فقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً ، كتاب الله وسنتي "

" إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه "
فالتوحيد أول كلمة في الإسلام وآخرها , وأول عمل من أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم وآخره .
لقد رمى الإسلام إلى أن يوحِّد العالمَ بعد أن وحد جزيرة العرب , وما الذي يمنع من ذلك ؟ إن رب العرب رب العالمين , ورب السماء والأرض ورب الطبيعة كلها _ فلو عبد الناس كلهم ربهم الحق لتوحدوا في العقيدة وأصبح العالم وحدة , وما يمنع الناس أن يؤمنوا بهذه العقيدة إلا دين انحرف عن القصد.

إن الإسلام مرتبط بالطبيعة أشد ارتباط , ويذكِّرنا دائماً بالنظر إليها والعبرة بها والاستدلال منها على خالقها , فيدعو إلى التفكر في السماء كيف رفعت , وإلى الجبال كيف نصبت , والأرض كيف سطحت , والسحاب المسخّر بين السماء والأرض , والشمس والقمر يتعاقبان , والبحار والأنهار تجري بأمره سبحانه , فماذا يحول بين الناس وبين خالقهم في كل بقعة من بقاع الأرض أن يتفكروا فيعبدوا الله وحده خالق هذا الكون ومبدعه ! واقرءوا إن شئتم : ( والشمس وضحاها , والقمر إذا تلاها , والنهار إذا جلاَّها , والليل إذا يغشاها ) الضحى 1-4 .

ثم هذا الإسلام يؤمن بكل ما أتى به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبل , من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام . ويعظمهم ويمجدهم , ويرى أنهم رسل كمحمد صلى الله عليه وسلم , وأن الله الذي أرسله أرسلهم , وأن دعوته ودعوتهم واحدة عمادها التوحيد وعدم الشرك , ومن آمن بدعوتهم صحيحة كان كمن آمن بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبين من بعده ) النساء 163, ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم , ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) البقرة 62.

فالأساس واحد كما أن إله الجميع واحد , وما فرّق بين الناس إلا الأغراض والشهوات وحب الدنيا وحب الرياسة : ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) يونس 19 , فلم لا يزول هذا الخلاف في العقيدة , وتتحد عقيدتهم كما توحد خالقهم ؟

هذا جانب العقيدة . أما الجانب العملي في الحياة فكذلك ؛ أليس من الخير أن يسود الناس العدل فلا يكون ظلم , ويُعلّى شأن الفرد فلا تكون عبودية , وتكون الحكومة للفرد ، لا الفرد للحكومة , ويسوَّي بين الناس فلا يقوّم الرجل إلا بعمله ؟ ! فما بال من حول جزيرة العرب من فرس وروم وأحباش تسوء حالة رعاياهم , فغنى مفرط بجانب فقر مدقع , وإسراف حكام في الملاهي والملذات على حساب الشعوب , وطبقات عالية تستولي على الخيرات لا تترك للطبقة الدنيا إلا الفتات.

ما بال العالم لا تتوحد قواعده الأساسية في الحكم كما تتوحد العقيدة , فيكون عدل مطلق , وحرمة للرعية دقيقة , وأمن شامل , ونظام شامل ، وأخوة شاملة , وإهدار للجنسية , فلا عرب ولا روم , ولا فرس ولا أحباش , ولكن خلق الله يتآخون أفراداً ويتآخون أمماً , وتحل الإنسانية محل الجنسية , وعبادة الله الحق وحده محل الآلهة المصطنعة المتعددة , فيكون توحيد العقيدة , وتوحيد في العمل , وتعاون في العالم ؟!

على هذا الأساس أرسل محمد صلى الله عليه وسلم كتبه إلى ملوك العصر المجاورين للجزيرة : هرقل عظيم الروم في الشام , والمقوقس في مصر , وكسرى في فارس , والنجاشي في الحبشة , يدعوهم إلى التوحيد , فإذا وحَّدوا توحد العالم .

يقول صلى الله عليه وسلم في هذه الكتب التي أرسلها للنصارى منهم : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلا الله ولانشرك به شيئاً , ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ) آل عمران 64. ففي العقيدة الأولى الدعوة إلى الوحدانية , وفي الثانية الأخوة وهدم الطبقات ثم في كل الكتب يحمّل الملوك تبعة الرعية , ففي استطاعتهم قبول الدعوة , وإذا رفضت فالإثم عليهم لأنهم يبغون حظ أنفسهم ؛ ففي كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل : " فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين(1) , وفي كتابه صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس : ( فإن توليت فعليك إثم القبط ) وفي كتابه صلى الله عليه وسلم لكسرى : " فإن أبيت فإنما إثم المجوس عليك " .

ولكن أنى يلبِّي هؤلاء الملوك الدعوة ومقياس الأشياء عندهم المظهر لا المخبر ؟ فكيف يجرؤ عربي بدوي في الصحراء ملتف بإزاره أن يدعو من يغرق في الترف , وينعم في الحضارة ويرفل في الحرير , ويسير بالجنود والبنود , ويرث الروم في مدينتهم , أو الفرس في عظمتهم وفخفختهم ؟ !

بل كيف يلبون الدعوة , وهي تدعو إلى إزالة الفوارق ومساواة السيد بالعبد , والراعي بالرعية , والحاكم بالمحكوم , وتلغي الطبقات وهي عماد الدولة في نظامها وتشريعها وماليتها وكل شىء فيها ؟ !

لا ! لا ! مزِّقوا الدعوة احتقاراً , أو ردوا الرسول محملاً ببعض الهدايا استخفافاً . وهكذا صدوا عن أسمى فكرة وهي التوحيد في العقيدة والعمل , ولصقوا بالتقاليد في العقيدة والعمل. فلما لقى ربه صلى الله عليه وسلم , نفذ بعض الخطة خلفاؤه رضوان الله عليهم أجمعين.
* * *

أما بعد , فلا يصلح آخر الدين إلا بما صلح به أوله , كان التوحيد هو الأساس ولا يزال هو الإصلاح . كل تعاليم الإسلام باقية ولكن فقدت روحها , واحتفظت بجسمها ولكن ضعفت حرارة قلبها _ قد كانت عقيدة ( لا إله إلا الله ) تعني توحيد المعبود , فأصبحت الآلهة متعددة عملاً وإن لفظ التوحيد لفظاً ؛ فالمال معبود , والسلطان معبود , والشهوة معبودة , والدنيا معبودة , فلا بد أن تُكسر هذه الأصنام آخراً كما كسرت أولاً . وكان هناك توحيد العمل , فالقيادة واحدة , والنظام واحد , والرأي _ بعد الشورى _ واحد , فإذا كل رأسٍ رأسُ قائد , وكل متكلم زعيم , وكل زعيم مستبد , وحب الشهوة يلعب ، والأنانية تلعب , والدسائس للتفريق تلعب . وكان في الأسلام أخوة تبعث الحب , والحب يوثق الصلة , فإذا العداوة في كل جو ترضع مع اللبن , وتتنفس مع الهواء . ولم تكن هناك طبقات فتعددت الطبقات من كل جنس , على أساس الدم والمال والمنصب والسياسة . وعلى الجملة , فكل دعوة إلى التوحيد تقابل بألف مشكلة من أنصار التعديد , وكل تعديد فرقة , وكل فرقة ضعف , وكل ضعيف عرضة لأن يلتهم , ولا عظة بالتاريخ , ولا عبرة من أحداث الزمان . فالله المستعان .


الأريسين : الأكار والفلاح , رومية الأصل (1)
1
183
تعليقات (0)