محمد - صلى الله عليه وسلم - رَبُّ بيت

-
فكرة باطلة سادت أفكار بعض الناس في معنى " الرسالة المحمدية " فخلع بعضهم عليها أحياناً بعض أوصاف الألوهية , وأحياناً بعض أوصاف الرهبانية , من مبدأ البعثة إلى اليوم , وكان النبي _ صلى الله عليه وسلم _ يحارب هذه الفكرة كما يحارب الإلحاد ويعلن ويكرر في كل مناسبة أنه " بشرٌ رسول " لا " ملَكٌ رسول " .

من مبدأ البعثة اجتمعت صناديد قريش بمكة فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلاداً ولا أقل مالاً ولا أشد عيشاً منا , فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا , ويبسطْ لنا بلادنا , وليفجرْ فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق , وليبعث لنا من مضى من آبائنا , فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟! , فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك , ولتسأله فيجعل لك جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة , ويغنيك عما نراك تبتغي , فإنك تقوم بالأسواق , وتلتمس المعاش كما نلتمسه , حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا , فإن لم تفعل فاتخذ إلى السماء سُلّماً ترقى فيه وتأتي به بنسخة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ) .

فقال صلى الله عليه وسلم : ( سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا ) .

لقد أخطئوا إذ نسوا أنه بشر لا يقدر على الإتيان بهذه الأشياء ولا يستطيع اقتراحها لما فيها من التعنت والتحكم , وليس للرسول أن يتحكم على الله فيطلب منه خرق قوانينه التي أدار عليها ملكه .

وخطأ آخر مثله وقع فيه بعض المسلمين إذ خلعوا عليه بعض أوصاف الرهبانية , فقد روي في الحديث أن بعضهم كان يسأل عائشة _ رضي الله عنها _ : ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ؟ ظانين تبتله ! , فكانت تجيبهم : أنه يفعل في بيته ما يفعله الرجل الكريم بأهله . وسألها رجل : ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله ؟ قالت كان في مهنة أهله , فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة .

وجاء ثلاثة نفر إلى بيوت أزواج النبي رضوان الله عليهم فقال أحدهم : إني أصلي الليل أبدا.ً وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال ثالث : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً . فقال عليه الصلاة والسلام : ( أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له , لكني أصوم وأفطر , وأصلي وأرقد , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم إنساناً يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ويتاجر ويتزوج , ولقد كان رسولاً عرف الله ودعا إليه , اختاره الله ليكون آخر سفيرٍ بينه وبين خلقه , فله صلى الله عليه وسلم جانبه الإنساني ؛ فهو يضرب في الأرض يسعى ويكد , وتتوارد عليه العواطف الإنسانية , وله جانب روحاني يتصل بربه , ويتلقى رسالته ويبلغها خلقه ، يحيا كما يحيا الناس ، ويجري عليه صلى الله عليه وسلم حكم الموت كما يجري على الناس , ويتصل بالله كما يتصل الرسل , ويؤدي رسالته كما أدَّاها الرسل من قبله , فمن زعم أنه فوق قوانين البشر فقد ضلّ , ومن جحد رسالته فقد كفر.

وهو في أداء رسالته - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - أمين معصوم , وفي إنسانيته يفعل ما يفعل الرجل الكامل , ينشد معالي الأمور ويترفع عن سفاسفها , ويطلب المثل الأعلى , ويتجمل بالمروءة , ويشعر بعظم التبعة , وتطهر نفسه فلا يتصنع , ويفعل في السر ما يفعله بالعلانية, ويملؤه الشعور بأن الله خالقه يراه , وأنه يأمره وينهاه , فيأتي مايأتي من الخير , ويذر ما يذر عن الشر ، حباً في الله _ ومن أحب أطاع _ فكان المثل الأعلى للناس في جانبه الإنساني , وجانبه الروحاني , وفي معاملته ، وفي بيته ، وفي دعوته , وفي عبادته , وفي تضحيته , وفي إخلاصه فصلوات الله وسلامه عليه.

لقد كان لمحمد _ صلى الله عليه وسلم _ بيت في مكة قبل الهجرة , وبيت في المدينة بعد الهجرة , والبيتان مختلفان في مظاهرهما .

ففي مكة ظل من غير زواج إلى سن الخامسة والعشرين , وهي سن متأخرة بالنسبة لحالة العرب الاجتماعية إذ ذاك , ولكن دعا إلى هذا التأخير _ فقره وما الفقر بعيب _ فلما أتيح له الزواج تزوج , وكان الزواج مؤسساً على أساس صحيح , من معرفة الزوج للزوجة في خُلُقها وخلقها ونسبها , وكانت الزوجة تعرف زوجها كذلك , فأحرِ أن يكون هذا الزواج موفقاً , لقد عرفت خديجة رضي الله عنها محمداً صلى الله عليه وسلم من خلال تجارتها , وكانت _ رضوان الله عليها _ تبعث الرجال يتاجرون لها بالمال في الشام كما يفعل أغنياء قريش , فبعثت محمداً _ صلى الله عليه وسلم _ في ذلك فعرفته بعد أن سمعت به وسمع بها , وخبر كلٌّ حال الآخر , ثم كان أن عرضت عليه أن يتزوجها بعد أن خطبها رجال من قريش فأبت عليهم , ولعلها _ رضي الله عنها _ قرأت فيهم الطمع في مالها ورأت فيه التعفف عن مالها , كما كانت من أولئك النساء القلائل اللائي يقرأن المعاني في الرجل أكثر مما يقرأن المادة والمظاهر , فأرسلت إليه نفيسة أمية, فقالت ما يمنعك أن تتزوج ؟ قال ما في يدي من شيء . قالت : فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة ؟ قال فمن ؟ قالت : خديجة , فأجاب .

كانت خديجة _ رضي الله عنها _ امرأة مكتملة , في الأربعين من عمرها ، من قريش أماً وأباً , تزوجت في شبابها رجلاً من خيار بني تميم اسمه أبو هاله فولدت منه ابنتين هما هند وهالة , ثم مات عنها فتزوجها قرشي اسمه عتيق بن عابد ، فولدت له بنتاً اسمها هند ثم مات عنها كذلك , و قد عاش الثلاثة , ولعل مالها جاءها من قِبَل زوجيها فكانت ذات مال وذات تجارة في حياة أبيها , ثم تزوجت محمداً صلى الله عليه وسلم وهو في الخامسة والعشرين من عمره .

في بيت , في حي التجار بمكة , كانت تسكن هذه الأسرة ؛ خديجة _ رضي الله عنها _ وأولادها الثلاثة ومحمد _ صلى الله عليه وسلم _ , وصبي صغير كانت اشتدت الأزمه بأبيه , فرجاه أهله أن يأخذوا عنه بعض أولاده يعينوه في تربيتهم فأخذ _ الرسول صلى الله عليه وسلم _ أحدهم , وكان هذا الصبي هو علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ كما يسكنه مولى لهم هو زيد بن حارثة _ رضي الله عنه _ فتعادل البيت بصبيانها وصبيه وتعادل الكسب بمالها وعمله , وظل هذا البيت خمساً وعشرين عاماً , يتبادل فيه الزوجان الحب والألفة والتعاون , فلم يسمع مرة بخلاف ولا مشادة ولا غضب , رزقت منه بأولاد لم يعش منهم إلا بنات أربع , ربين في هذا الوسط الوادع السعيد . وقد اعتاد العرب في هذا الزمن أن يعددوا زوجاتهم , وخاصة في سن شبابهم , ولم يعدوه عيباً , ولا تعده النساء كذلك , ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك حباً في خديجة _ رضي الله عنها _ وحرصاً على رضاها .

كان قومه _ صلى الله عليه وسلم _ ضالين في عبادتهم , وفساد نظامهم , وكان مقتنعاً عليه الصلاة والسلام بأن ما عليه قومه ضلال لاشك فيه , وما يعبدونه باطل لا محالة , ولكن ماهو الحق ؟!

وكان يبث لخديجة _ رضي الله عنها _ كل هذا ، فتفهمه ، وتشجعه ، وتعينه , ولقد شوهدا ومعهما عليّ في الكعبة يعبدون الله على نحو خاص غير ماتفعله قريش , كان هذا يملك عليه نفسه , فكانت خديجة _ رضي الله عنها _ له أكبر عون , فلما حببت إليه العزلة , ورأى أنه يمضي في عزلته الليالي في غار حراء كانت هي التي تُعد له زاده , وتفهم نفسه وتعين على غرضه , ولما جاءه الوحي لأول مرة ورجع إلى خديجة _ رضي الله عنها _ يرجف فؤاده , كانت هي التي دثرته وأذهبت روعه وأخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، وكان رجلاً متنصراً عالماً بالأديان ، فطمأنه أنه الوحي , فكانت أول إنسان آمن برسالته وصدّقه في قوله ، لأنها رأت منه مالم يره أحد , رأته في بيته على فطرته وسجيته فلم تقع منه على كذبة , ولم تقف منه على رياء , ولا يعرف أحد أحداً كما يعرفه أهل بيته , فهناك المظهر الحقيقي والإنسان على سجيته , ورأت مقدمات الوحي خطوة خطوة فسهل إيمانها بالنتيجة ، ولا تسل عن عظمة هذا الموقف يوم يتجلى للعظيم الحق فيجد في الوجود إنساناً بجانبه يؤيده ويثبته .

ثم لما أعلن _ صلى الله عليه وسلم _ الدعوة لقومه ولقيَ منهم شر أنواع العنت ، كانت _ رضي الله عنها _ تخفف بحديثها وأسلوبها كربته وتؤنس وحشته , قال ابن إسحاق : كان _ صلى الله عليه وسلم _ لا يسمع شيئاً يكره مِن ردٍّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة _ رضي الله عنها_ إذا رجع تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهوّن عليه أمر الناس , وكان من فضل الله أن كانت بجانبه العشر سنين الأولى من الدعوة وهي أشق السنوات عناء وجهاداً وكفاحاً .

لذلك لم يُكِنَّ محمد صلى الله عليه وسلم من الحب والوفاء والتقدير لأحد ما أكنه لزوجته خديجة رضي الله عنها فلما قالت له عائشة رضي الله عنها قد رزقك الله خيراً منها , قال صلى الله عليه وسلم : ( لا والله ما رزقني خير منها , آمنت بي حين كفر بي الناس , وصدقتني حين كذبني الناس , وواستني بمالها حين حرمني الناس ) . ولما توفيت _ رضوان الله عليها _ في الخامسة والستين من عمرها في العام الذي توفى فيه عمه أبو طالب سمي العام " عام الحزن " وكان شديد الحنين إليها والذكرى لها ، فكان صلى الله عليه وسلم يبعث الهدايا إلى صديقاتها من حين إلى آخر, ودخلت عليه مرة _ وهو بالمدينة _ أختها هالة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً فلما سمع صوتها انتبه من نومه لفوره وقال : ( هالة هالة هالة ) ! ترحيباً بها , ووفاءً وتقديراً لأحبّ الناس إليه .

أما في المدينة فقد كان لبيت النبي _ صلى الله عليه وسلم _ شأن آخر , لقد كان موقفه في الدعوة , وتأييدها بالمصاهرة والنسب , وطبيعة الحالة الاجتماعية في عصره , وحبه _ صلى الله عليه وسلم _ للنساء ، وظروف كثيرة - ليس هذا موضع ذكرها - إلى أن يعدد زوجاته , هذه عائشة بنت صاحبه أبي بكر , وهذه حفصة بنت صاحبه عمر , وهذه أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش , وهذه صفية بنت حيُي بن أخطب سيدة قومها من يهود بني النَّضير , وهذه زينب بنت جحش مطلقة مولاه ومتبناه زيد بن حارثة , وعلى الجمله فهن خمس قرشيات وأربع عربيات من غير قريش , بين هلالية ، وخزامية ، وأسدية ، وواحدة من بني إسرائيل _ رضوان الله عليهن أجمعين _ فكان سبب الزواج أحياناً تأليف قوم , أو توثيق رابطة , أو تشريعاً جديداً يخالف ما كان عليه العرب , أو عطفاً على أيّم مات عنها زوجها في جهاد في الإسلام .

وكان النساء في المدينة غير النساء في مكة , فهن في مكة مضغوط عليهن , ومستسلمات لأزواجهن , ومن العار أن يرددن لهم قولاً , بحكم بأس قريش وشدتهم وسطوتهم , على العكس من ذلك من نساء المدينة فلهن قسط وافر, من الحرية , يراجعن أزواجهن , ولهن رأي يسمع , ومطالب تجاب , واستتبع هذا شيئاً آخر وهو غلبة الجد الدائم على قريش ونسائهم , وحب الفرح والمرح في نساء المدينة ورجالها , ففي الحديث أن عمر بن الخطاب قال : ( كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء , فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم , فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم " وفيه : أن عائشة _ رضي الله عنها _ زفت إمرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : " أما كان معكم لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو ) .

أفرد رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ لكل زوجة بيتاً , ومع هذا فالعواطف الطبيعية للنساء لا يمكن محوها , ولا من الخير زوالها , والإنسان إنسان مهما كان , كل منهم كان يحرص أن يكون له من رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أكبر نصيب في حبه , وكل واحدة تغار إن شعرت بعطف أكبر من ضراتها , وكل يحاسب على النظرة والابتسامة , ولكلٍ نوع من المزايا تُدل بها , وأخيراً انقسمن إلى حزبين ؛ حزب فيه عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وصفية وسودة , وحزب فيه أم سلمة وزينب وميمونة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية رضي الله عنهم أجمعين.

ثم مشكلة أخرى طبيعية , فعائشة _ رضي الله عنها _ زوجة أحب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ مزاياها , وفاطمة رضي الله عنها بنته من خديجة رضي الله عنها , وطبيعي ما يكون بين البنت التي ماتت أمها وتزوج أبوها غيرها وبين زوجة أبيها , ويزيد على ذلك في نفس الزوجة الجديدة أنها لم تلد , والبنت تزوجت وولدت , والرسول صلى الله عليه يحب زوجته ويحب بنته ويحب أولاد بنته.

هذه كلها مشاكل مستعصية ما كان يمكن التغلب عليها والمعيشة الهانئة معها لولا حكمة من الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ فوق كل حكمة , وكان من نعم الله حدوث هذه المشاكل وظهورها , فقد استوجبت من التشريع الإسلامي قدراً كبيراً وكان هؤلاء الزوجات _ وخاصة عائشة _ مدارس يتلقى فيها الصحابة والتابعون علمهم عنهن ، قال تعالى : (واذكرن مايتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) الآيه ، فيروون الأحاديث في مختلف الموضوعات من علمهن , ويحكين ماشاهدن , وما سمعن , وما تصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من مشاكل وأحداث أمام أعينهن , وأدبه فيما بينهن حتى قيل أن ربع أحكام الشريعة مأخوذة عن عائشة _ رضي الله عنها _ ورُوى في كتب الصحاح ألفان ومائتا حديث , قال لها عروة _ رضي الله عنها _ يوماً : يا أماه ! لا أعجب من فقهك أقول زوجة رسول الله , ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر , وكان من أعلم الناس بذلك , ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو وأين هو ؟ قالت : أيْ عُرية ! إن رسول الله كثرت أسقامه عند آخر عمره , فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأعنات فكنت أعالجها , فمِن ثَمَّ .

عدل بينهن في المعاملة على أدق وجه , واعتذرمن عدم العدل بينهن في الحب فإنه لا يملكه وقال _ صلى الله عليه وسلم _ : ( اللهم هذا قَسمْي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) وكان _ صلى الله عليه وسلم _ إذا صلى العصر زار نساءه جميعاً وتحدث لكل منهن ثم بات في بيت من لها الليلة وأحياناً يجتمعن في بيتها , وإذا خرج إلى سفر أقرع بينهن فأيهن يخرج سهمها خرج بها .

إلى أسلوب في المعاملة ظريف وإلى نمط في المعاشرة لطيف , يلعب الأحابيش فتحب عائشة رضي الله عنها أن ترى لعبهم فتستند على منكب النبي _ صلى الله عليه وسلم _ فلا يسأم حتى تسأم , ويسابقها فتسبقه حتى إذا سمنت سابقها فسبقها فقال _ صلى الله عليه وسلم _ هذه بتلك ، ويقول : ( إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله ) وكان يوم عيد فدخل أبو بكر رضي الله عنه على عائشة _ رضي الله عنها _ فوجد عندها جاريتين تضربا بالدف , فنهرهما أبو بكر _ رضي الله عنه _ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعهن يأ أبا بكر فإنها أيام عيد ).

ويحب الأطفال ويقبلهم ويلاعبهم ويجلسهم في حجره ويأتي أعرابي بدوي فيقول يارسول الله أتقبِّلُ الصبيان؟ والله ما نقبلهم , فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك إن نزع الله من قلبك الرحمة!!.

أزمة كانت تستيقظ من حين لآخر فوضع لها النبي _ صلى الله عليه وسلم _ حداً حاسما . كان رسولاً وكان مثل للناس , وفهم رسالته حق الفهم , أتى ليبلغ عن الله رسالته ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر , ويدعو إلى الخير ويحذر من الشر , وليست رسالته أن يجمع ثروة أو يؤسس لنفسه ملكاً ولا يتأتى أن يؤدي رسالته على أكمل وجه حتى يزهد في المال وعرض الحياة . ولو التفت إلى المال لم يُطّع هذه الطاعة , ولا يجيب على هذه الإجابة , ولا لتفت الأتباع إلى المال ، ولم يأبهو للدعوة , ولفات على الناس درس التضحية , ولذت نفوس الفقراء واضغنوها في أنفسهم , وما أكثر ولع الأغنياء في الدين بغناهم لا بتقواهم , إذن فليتخل عن مظاهر الدنيا والترف في العيش , وليعش عيشة أبسط رجل , وكذلك كان صلى الله عليه وسلم , فلم يمتلئ جوفه شبعاً , ويبيت بعض الليالي طاوياً , ويمر الشهر مايستوقد أهله ناراً , يعيشون على التمر والماء , ولا يرون الرغيف المرقق ولا الشاة السميط , ويموت ودرعه مرهون عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير , ويأتيه مال مرة من الغزو فيقسمه ألف بعير على أربعة أنفس , ويسوق مائة بدنة فينحرها ويطعمها المساكين ولم يدخر لأهله شيئاً فكان فقره إيثار لا عوزاً صوات الله وسلامه عليه.

لوكان الشأن شأن نفسه _ صلى الله عليه وسلم _ فقط لهان الأمر , فلقد كان _ صلى الله عليه وسلم _ عظيم يضحي لربه ولدعوته فجد من سعادة التضحية أضعاف مايجد الشحيح بماله وترفه , ولكن ما شأن زوجاته ، هاهن أولاء يطالبن شيئاً من السعة في العيش ، ومن النعيم الذي ينعم به حتى صغار المسلمين , وهو يردهن رداً جميلاً , فلما كثر الطلب واشتد اللحاح كان الموقف الحاسم ( يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن(1) وأسرحكن سراحاً جميلاً , وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ) , فبدأ يخير النساء بين الطلاق والعيشة التي تتفق ودعوته , وبدأ بعائشة فاختارت ربها ورسوله وكذلك فعل سائر نسائه رضوان الله عليهم أحمعين, وحسم الأمر ووطّن أنفسهن على الصبر , وكان لهن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة .

وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وظل نساؤه أمهات المؤمنين يرجعون إليهم المشاكل , ويستفتونهم فيما دق من مسائل , يأخذ عنهن مؤرخو السيرة تاريخهم , والمحدثون حديثهم , والفقهاء فقههم , هذه عائشة رضي الله عنها يروي عنها عمر بن الخطاب وابنه عبدالله وأبو هريرة وأبو موسى وابن عباس , ومن التابعين سعيد بن المسيب , وعلقمة بن قيس , وآخرون كثيرون رضوان الله عليهم أجمعين , وقد عمرت _ رضي الله عنها _ حتى بلغت السادسة والستين , وتوفيت في عهد معاوية _ رضي الله عنه _ بعد أن كانت مرجع الناس في الفتيا , وخاصة في أدق المسائل الزوجية مما استفادت من رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _, وكذلك كانت حفصة بنت عمر _ رضي الله عنهما _ ، رويت عنها الأحاديث الكثيرة , وإن لم تبلغ مبلغ عائشة رضي الله عنها, وكان يروي عنها أهل بيتها كأخيها عبدالله وابنه حمزة وزجته صفية , وعمرت حتى بلغت الستين , وماتت كذلك في خلافة معاوية , وعمرت أم سلمة رضي الله عنها إلى أن بلغت الرابعة والثمانين , وكانت آخر أمهات المؤمنين موتاً , وهكذا , فكان حول كل منهن تلاميذ من أهلها وأقاربها وغيرهم يروون عنهن , ويأخذون عنهم آراءهن فيما حدث من الفتن العظام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه , ولم ينسين أبداً درس الزهد وبساطة العيش وبذل المال كما علمهن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فقد فُرض لهن الغرض العظيم بعد الفتوح فكن يتصدقن به ولا يدخرن منه , هذه عائشة _ رضي الله عنها _ أتاها مائة ألف درهم ففرقتها في يومها وكانت صائمة ولم تتذكر أن تشتري لحما بدراهم تفطر عليه , وهذه زينب بنت جحش _ رضي الله عنها _ كانت ما يأتيها من عطائها صَنَاع اليدين تصنع بيدها وتخيط , وتتصدق بكل ذلك في سبيل الله , ووصفّتها عائشة _ رضي الله عنها _ ضرتها فقالت : لم تكن امرأة خيراً منها في الدين , وأتقى لله , وأصدق منها حديثاً , وأوصل للرحم , وأعظم صدقة , وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تتصدق به ويقربها إلى الله .

فصلوات الله وسلامه عليه وعليهن وعلى آل بيته أجمعين.


(1) أمتعكن أعطكن متعة الطلاق .

1
180
تعليقات (0)