-
في يوم من أيام صفر من العام الذي سمي فيما بعد " عام الهجرة " بثت الدعوة في عظماء قريش أن يجتمعوا في " البرلمان " لأمر خطير .
نعم , كان لقريش برلمان , ولكن لم يكونوا يسمونه هذا الأسم الأجنبي الذي يقتبسونه من غيرهم , إنما كانوا يسمونه إسماً ظريفاً من وضعهم , وهو" دار الندوة " يجتمعون فيه كلما حَزَهَم , أمر أو جد لهم حادث خطير .
ولم يكن لبرلمانهم دستور مكتوب , وإنما هو دستور متعارف , أوجدته الأوضاع والتقاليد , ولم يكن له قانون انتخاب , إنما يتهيأ للعضوية فيه من أثبت بفعاله عظمته في قبيلته , ومن كان قريشاً بلغ الأربعين.
وكان مكان البرلمان داراً لقصي بن كلاب , توارثها أعقابه من بعده , وخصصوها لتشاورهم والتحدث في عظائم أمورهم "وكانوا لا يقضون أمراً إلا فيها" وكانت تقع في الجانب الشمالي من الكعبة , وهي الآن جزء من المسجد الحرام.
اجتمع الأعضاء في الموعد المحدد , وتمثلت في اجتماعهم قبائل قريش برجالتها وعظمائها هذان عُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة يمثلان عبد شمس ؛ وهذا أبو سفيان يمثل أميّة؛ وهؤلاء طعيمة بن عَدي وجُبَير بن مطْعم والحارث بن عامر يمثلون عبد مناف ؛ وهذا النضر بن الحارث بن كَلَدة يمثل عبد الدار ؛ وهذا أبو البَخْتَري وزَمْعة بن الأسود وحَكيم بن حِزام يمثلون بني أسد بن عبد العُزّى ؛ وهذا أبو الحكم بن هشام يمثل بني مخزوم ؛ إلى كثير غيرهم يمثلون القبائل القرشية كلها .
ساد السكون , وظهر على وجوههم الجد , ما الأمر الذي دُعوا إليه ؟ لقد عرفوه مجملاً , والآن يريدون أن يعرفوه مفصلاً , ويريدون أن يقضوا فيه قضاء حازماً حاسماً .
الأمر أمر محمد وصحبه ... لقد سمعنا دعوته أول أمرها فاستخففنا به وبها , وقلنا مجنون أو شاعر نتربص به ريب المنون , وظننا أن دعوته تذهب مع الريح , فليدع ما يدعو فليس له سميع ! وقد بدأ دعوته مسالماً , يدعو في رفق ولطف ويقول: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق , خلق الإنسان من علق , اقرأ وربك الأكرم , الذي علم بالقلم , علم الإنسان ما لم يعلم ) فتركناه وشأنه ولكنه خطا بعدُ خطوة أجرأ وأفضع , فكان يدعو سرَّا فدعا جهراً , وسب آلهتنا , وسفَّهَ أحلامنا , وضلل آباءنا ؛ فطلبنا من قومه أن يكفوه عنا , أو يخلوا بينه وبيننا , فلم يكن هذا ولا ذاك ؛ فاتجهنا اتجاهاً آخر , أن نتركه ونعذب من اتبعه , حتى يكون تعذيبهم نكالاً لهم وعظة لغيرهم فأوعزنا إلى كل قبيلة أن تَثِب على من فيها من المسلمين ؛ تعذبهم وتفتنهم عن دينهم فنفذت ذلك بما استطاعت من قوة , فحبستهم وعذبتهم بالضرب والجوع والعطش , وبرمضاء مكة إذا أشتد الحر ؛ هذا إن كان ضعيفاً _ وإن كان شريفاً سفهنا حِلْمه , ووضعنا من شرفه , وإن كان تاجراً كسَّدنا تجارته , وأهلكنا ماله ؛ فما أغنى كل ذلك شيئاً , فالقليل من افتتن , والكثير من أصر على دينه , وفضَّل الموت على الرجوع عنه ؛ ثم رجعنا إلى محمد نرغبه في العدول عن دعوته وقلنا : إن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً , وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوِّدك علينا , وأن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا , وإن كان هذا الذي يأتيك مرضاً طلبنا لك الطب حتى نبرئك منه . فقال " ما بي ما تقولون ! ولكن الله بعثني إليكم رسولاً , وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ".
رجعنا إلى تعذيب أصحابه , فهاجروا إلى الحبشة , ونشروا ذكر محمد في الآفاق وفي كل موسم حج , تأتي قبائل العرب من كل فج , فيتسامعون بمحمد ودعوته ويعرض هو نفسه على القبائل ليدخلوا في دينه , ويحموا دعوته , وترجع كل قبيلة تتحدث بما رأت وما سمعت .
وأخيراً حدثت الكارثة , فقد لَبَّى دعوته الأوس والخزرج من أهل يثرب , وأتى نقباؤهم فبايعوه في هذا الموسم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم , وهؤلاء أصحابه يخرجون إلى يثرب أسرابا أسرابا , وعما قليل يتبعهم محمد .
وماذا تكون العاقبة ؟
سيتآخى من أسلم من قريش ومن أسلم من الأوس والخزرج , وسيكونون قوة عظمى تحاربنا وتجالدنا , والأوس والخزرج أبناء الحروب وأهل السلاح , فإذا انضم إليهم أبناء قريش ممن أسلم مع محمد فالويل لنا ؛ سيمنعون تجارتنا ولا عيش لنا إلا بالتجارة , وسيبثون معه الدعوة إلى القبائل الأخرى , فيدخلون في دينه , ثم لا يكون لنا إلا الخزي والعار والفقر , وهاهو محمد اليوم بين أظهركم , وغداً قوة في يد أعدائكم .
هذا هو الموقف , وهذه هي مسألة اليوم .
فما الرأي ؟
وقف أبو البَخْتري بن هاشم فقال : " احبسوه في الحديد , وأغلقوا عليه باباً " ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله , زهير والنابغة ومن مضى منهم , حتى يصيبه ما أصابهم" .
عورض هذا الرأي وردّ عليه رادّ فقال : لئن حبستموه ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه , فلأوشكوا أن يثبتوا عليكم فينزعونه من أيديكم , ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم , ما هذا لكم برأي !
واقتنع المجلس بفساد هذا الحل .
فوقف أبو الأسود بن ربيعة بن عامر وقال :
الرأي عندي أن نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا , فإذا خرج عنا فوالله ما ندري أين يذهب ولا حيث وقع , وإذا غاب عنا وفرغنا منه أصلحنا أمرنا وأُلفتنا كما كانت.
قوبل هذا الرأي باستخفاف لا ذع لظهور سخفه , ورحم أحد الحاضرين قائله فرد عليه : " ألم تروا حسن حديثه , وحلاوة منطقه , وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه , ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم , فيأخذ أمركم من أيديكم . ثم يفعل بكم ما أراد " .
اقتنع المجلس _ وكان من قبل مقتنعاً بفساد الرأي .
فقام أبو الحكم بن هشام وقال : " والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعدُ , أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً , ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه , فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً , فلم يقدر بنو عبد مناف _ رهط محمد _ على حرب قومهم جميعاً , فرضوا منا بالعقْل فعقلناه لهم " .
خلب هذا الرأي لب المجلس وارتضوه وتواصوا بسرِّيته حتى ينفذ وختمت الجلسة.
أُبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ونزل عليه الوحي : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك , ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ).
وكان أبو بكر يتهيأ للهجرة إلى المدينة كما خرج غيره من قبل , والرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بالانتظار حتى يخرج معه , فلما عزم الأمر أعدت العدة وأحكمت الخطة.
إن خرجوا ظاهرين لتتعقبهم قريش , ولا بد أن يلحقو بهم فيرجعهم ويؤذيهم, رأوا لذلك أن يلجؤوا إلى جبل ثور ( على مسافة ساعة من مكة ) ويستخفوا في غار فيه , وأن يعفوا الأثر حتى لا يعرف مكانهم أحد .
لقد كانت أياماً شديدة حقاً , ثلاث عشرة سنة تمر على النبي صلى الله عليه وسلم في جهاد متصل ودعوة مستمرة , وطلب واضح أن يعدلوا عن عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر أحداً , إلى عبادة الله الذي بيده النفع والضر . ثم لا يظفر من قومه بعد كل ذلك إلا بهذا العدد القليل من المسلمين , ثم هم لا يتكرونه ودعوته , ولا يكتفون بالصد عنها وعنه , بل يعذبون أصحابه أشد العذاب , وأخيراً يقررون قتله فيضطرونه إلى الخروج من بينهم سراً .
وما أشدها ساعة يفارق فيها أهله وقومه ووطنه , والكعبة أحب مكان إليه ! وقد عبَّر عن هذا كله إذ وقف على نشز من الأرض حين خرج من مكة ونظر إلى البيت وقال صلى الله عليه وسلم : ( والله إنك لأحب أرض الله إلىّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله , ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك ) .
مرت ثلاثة أيام في الغار وهي أشد ما تكون عليهما , طلب مستمر من أهل مكة وجُعل كبيرٌ لمن يجدهما , واقتفاء أثرهما من أشتهر في القيافة , وتعب شديد في حياة الغار , حتى لقد تقطرت قدما الرسول صلى الله عليه وسلم دماً , إذ لم يتعود الحَفَي والجَفْوَة , وساعة رهيبة إذ يصل القافَة إلى الغار , ولو نظروا موضع أقدامهم لرأوهُما , وحزن شديد من أبي بكر , وطمأنينة وثبات من النبي , فيقول صلى الله عليه وسلم لصاحبه : ( لا تحزن إن الله معنا ) .
حتى إذا خف من قريش الطلب وقطعوا الأمل خرج النبي وصاحبه من الغار إلى المدينة في حفظ الله .
وقاية الله أغنت عن مضاعفة * من الدروع وعن عال من الأُطُم
لقد خرجا من مكة في شهر ربيع الأول ( يونيه -حزيران عام 622م ) حيث يشتد الحر وتتوهج الصحراء , وكانا يعرِّجان على من يلقيان من الأعراب يتزودان بالمأكل والمشرب بمالهما .
لقد كان في موقفه صلى الله عليه وسلم من قريش كما قال القائل :
ثَوَى في قريش بضع عشرة حِجَّة * يُذَكْر لو يلقى صديقاً مواتيا
ثم يكون آخر الأمر تآمر على قتله صلى الله عليه وسلم وإخراجه وأتباعه من الديار بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله , ولو أثيرت عند غيره الحوادث التي مرت به في مكة لأثارت الحفيظة والمقت ، ولكنه نبي الرحمة الذي ما كان يزيد في أشد الأوقات حرجاً على قوله صلى الله عليه وسلم : "اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون".
هذا ما كان في مكة ، فماذا عن يثرب وأهلها ومستقبلها ومشاكلها؟
إن بها اليهود فما هم صانعون ؟
وإن بين أهلها خصومات , فكيف تستأصل ؟
وإن الحالة الاقتصادية فيها سيئة , فكيف تتسع لمن هاجر إليها من قريش؟
وإن أرضها موبوءة لم يتعودها المكّْيون , فكيف تعالج ؟
وأول كل شئ وقبل كل شيء ما مصير الدعوة ؟ .
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يدخل يثرب , وهاهم أشرافها يتسابقون كل منهم أن يحوز الفخر بنزوله عنده , وهذا مسجده يقام , وها هو الأذان يُشرّع فيجلجل صوت بلال في المدينة , وهاهم أهل المدينة يدخلون في الإسلام أفواجاً , بنسائهم وذراريهم , وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين المهاجرين والأنصار , فيكوِّن منهم وحدة متماسكة على أساس التعاون في الخير ونصرة الحق , واحتمال الأذى في سبيل الدعوة إلى الله . وهذه المشاكل كلها تحل , فتحل مشكلة اليهود ومشكلة الفقر ومشكلة الوباء , ويصبح أهل المدينة أنصاراً , يحمون الدعوة , ويحققون ما عاهدوا رسول الله عليه , فيكون منهم ومن المهاجرين قوة ليس ما يدانيها في جزيرة العرب كلها ؛ قوة إيمان تدعمها قوة سلاح , فتنتشر الدعوة ,وتفد الوفود معلنة إيمانها , وتفتح مكة , وتدخل قريش فيما دخل فيه غيرهم , بعد أن فُلَّت شوكتهم , وضعفت قوتهم ويعم الإسلام جزيرة العرب , ويتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا , فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ) .
ويقف على باب الكعبة بالقرب من دار الندوة , حيث تآمر قريش على قتله منذ ثمان سنوات , فيقول صلى الله عليه وسلم : " لا إله إلا الله , صدق وعده , ونصر عبده , وأعزَّ جُنده, يأهل مكة ! ماترون أني فاعل بكم ؟ " قالوا : خيراً , أخ كريم وابن أخ كريم , فيقول صلى الله عليه وسلم : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " . لا يحمل حقداً ولا ضغينة , ولا يريد انتقاماً , إنما يريد أن تكون كلمة الله هي العليا , وأن تكون كلمة الذين كفروا هي السفلى , وقد كان ذلك , فلا غضب ولا انتقام , وتدوَّي جزيرة العرب كلها بلا إله إلا الله محمد رسول الله .
أللهم إصلح أحوال المسلمين . آمين