د. علي عمر بادحدح
عندما يذكر الفتح تتبادر إلى الذهن أجواء المعارك بما فيها من قصف عنيف، وقتال شديد، وتبدو في المخيلة صورة جيش منتصر ، و آخر مندحر، وأسرى أذلاء ، وفاتحون أشداء ، والكل يرى شلالات الدماء ، ومنظر الجثث والأشلاء ، ويقال حينئذ : تحقق النصر وتمّ الفتح ..
وكثير من الناس لا يعرفون من الفتح إلا هذا المعنى ، مع أنه لا يعدو أن يكون إحدى صور الفتح ، وتبقى هناك صور للفتح أعمق تأثيراً ، فهناك فتح القلوب بالترغيب والاستمالة، وهناك فتح العقول بالحجة والبرهان ، وهناك فتح في مجال المبادئ والأفكار، وآخر في مجال السلوك والأخلاق ، ولقد أثبت التاريخ أن الفتح العسكري وحده لا يحقق تحولاً عقائدياً ، ولا تغيراً سلوكياً، ولا تفوقاً حضارياً ، وفي ضوء هذه الحقيقة ندرك طبيعة المعركة بين الإسلام وأعدائه، كما ندرك المفهوم الشامل للجهاد بمعناه الواسع الذي يعبر عن الصراع العقائدي ، و المواجهة الحضارية، والذي يستلزم أن يكون لجهاد الدعوة وجهاد التربية دوره المعروف ، وأهميته المطلوبة ، والزمن اللازم لتحقيقه.
وعندما نتأمل في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ندرك تماماً أن الصحابة الذين انتصروا في ساحات المعارك وتفوقوا في ميادين القتال، كانوا قبل ذلك قد خاضوا معارك كثيرة وانتصروا فيها ، وربما كانت تكاليف وجهود تلك الانتصارات أكبر، فجيل الصحابة الذي تخرّج من مدرسة النبوة ، على منهج الإسلام انتصر في معركة الإيمان ، فأخلص التوحيد ، ووطد اليقين ، وجعل العقيدة تهيمن على كل شئ في حياة الفرد والأمة ، ثم انتصر على النعرات الجاهلية ، والنزاعات النفسية ، والنظرة الأنانية ، فانصهر الجميع في بوتقة واحدة ، ووحدة جامعة تستعصي على معاول الفرقة ، وتسد أبواب الفتنة ، وانتصروا كذلك على النفس وأهوائها ، والدنيا وملذاتها ، فكان الانتصار العسكري بعد ذلك متوقعاً ، بل بدهياً بعد ما سبقه من الانتصارات التي استغرقت زمناً طويلاً ، وتربية متأنية ، وصياغة جديدة جذرية لمجتمع كامل .
ونحن في أفياء ذكرى فتح مكة أودّ أن أشير إلى الحقائق السابقة من خلال الوقائع الناطقة، وأول ما يلفت النظر أن قريشاً بسمعتها العظيمة ، وقوتها الضاربة ، لم تبدِ مقاومة تذكر في فتح مكة، مع أننا نعلم حميتها واستعلاءها في بدر، ونرى فورتها ونقمتها في عودها للقتال في أحد، ونعرف حلفها وتحزبها يوم الخندق ، فما بالها وهي تُغزى في عقر دارها من أعظم أعدائها لا تبدي مقاومة تذكر؟ إنها بكل وضوح قد هزمت قبل المعركة ، واندحرت قبل المواجهة ، وفتحت قبل الفتح ، ولذا كان لابد لنا أن ننظر إلى الطريق إلى هذا الفتح ، ذلك الطريق الذي امتد ثمانية عشر عاماً كانت خلالها الدعوة والتربية ، ثم التميز والمفاصلة ثم الهجرة والتجمع ، ثم الدولة والمجتمع ، ثم المواجهة والجهاد، وكل ذلك كان له دوره في فتح مكة ، ولكنني سأشير إلى بعض ملامح الطريق من خلال صلح الحديبية الذي نرى فيه ما يأتي:
- فتح وتأمين طريق الدعوة
وذلك من خلال الهدنة المؤقتة " فإن الناس أمن بعضهم بعضاً واختلط المسلمون بالكفار وبادؤهم بالدعوة وأسمعوهم وناظروهم على الإسلام " [زاد المعاد لابن القيم ] وبهذا تكسرت الحواجز النفسية الناشئة من العداء والمواجهة، ففكرت العقول بتدبر، وأقبلت النفوس برغبة ودخل الناس في الإسلام بقناعة، وكان العدد في الحديبية ( 1400) وصار في الفتح(10.000).
- تقديم نموذج باهر للمجتمع المسلم
رآها المفاوضون الذين ترددوا على الرسول حتى قال عروة بن مسعود: " لقد رأيت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً ".
وهكذا نظرت قريش إلى المسلمين بإعجاب وانبهار وتعظيم وتقدير ، ودفعهم ذلك للمقارنة بمجتمعهم الذي صاروا يزهدون فيه ويحتقرون مبادئه وقيمه .
- قوة التربية المنهجية
وظهر ذلك في موافقة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأن يردّ من جاءه من قريش مسلماً ، وألا تردّ قريش من جاءها مسلماً ، وذلك لقناعة المصطفى بصدق المنهج ، ووضوح الرؤية ، وعمق اليقين في صفوف المسلمين ، فلم يكن يخشى على أصحابه أن يتأثروا فيرتدوا ، وكان يدرك أن من أسلم من قريش سيثبت وإن اضطهد وعذب،وهذا إعلان لقوة المنهج وقوة الأفراد.
- الالتزام الأخلاقي العملي حتى مع العدو
فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ردّ من جاءه من المسلمين إلى قريش ولم يجف مداد العهد بعد ، فظهرت صورة مشرفة لتعامل الدولة المسلمة { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا } .
- خصائص المجتمع المسلم
الذي كان فيه الشورى والحوار واختلاف وجهات النظر الذي لا يفسد للودّ قضية ، ولا يغيّر القلوب ، ولا يفرّق الصفوف ، كما أن فيه انضباط الفرد بالجماعة وموقفها ، كما ظهر ذلك من مراجعة عمر - رضي الله عنه – للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت هناك أيضاً القوة والحمية في حماية الدين ونصرته عندما بايع المسلمون بيعة الرضوان ، وكانوا على قلب رجل واحد حتى الموت .
نعم تلك خطوات على طريق الفتح الذي تمّ بلا مواجهة ، فقريش فيما بين الحديبية والفتح هزمت عقائدياً وفكرياً وسلوكياً ، قبل أن تنهزم عسكرياً ، فهل يعي المسلمون وخاصة المتحمسون أن للنصر متطلبات وأن للفتح خطوات ، وأن هناك حاجة للزمن ، وافتقاراً للحكمة، وضرورة للتربية والدعوة ؟.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات