خبر تأملي .. في الجهاد المحمدي ( 1 )

مها العجلان
بقلم : مها العجلان

لم يعرف التاريخ كله اسلوباً في القتال يراعي الكرامة والإنسانية ، كأسلوب القتال المحمدي ، فلا تعذيب ولا تمثيل ولا غدر ، فهو يظهر واضحاً لدى كل مسلم وعدو منصف ، وقد قام أحد الباحثين من غير ملتنا بإجراء بحث استعصى فيه أميز مائة شخصية عالمية ، ولعنا نتساءل عن النتيجة ؟ يقول الباحث : ( فإذا محمد في الطليعة متربعاً على العرش بلا منازع ) . والفضل ما شهدت به الأعداء !!

إن أول عامل يعتمد عليه جيش الإسلام في استنزال النصر من عند الله تعالى هو التقوى ، وعفة النفس والوفاء بالعهد ، والمروءة واحتساب الأجر ، فقد كان يعول على صفات الجندي وليس على نوع السلاح فحسب ، وبكيف الجنود لا بعددهم ، وبالأيدي المتوضئة ، والجباه الساجدة ، والعيون الدامعة ، والأجساد الخاشعة فقد كانوا خريجوا بيوت الله ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ) فهم ( رجالاً لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوم تتقلب فيهم القلوب والأبصار ) فإذا لم تكن هذه البداية ، فلن تصح النهاية ، ومن صحت بداية صحت نهايته. ولاجل هذه المعاني الكبار ، والأمور العظام ، أتت فريضة الجهاد متأخرة ، لتعطي الجماعة المسلمة الفرصة لكي يتربوا بأحداث تربية إيمانية ، لتهفو النفس وتتعلق القلوب بخالقها ، ويكون الدين لله ، فلا تكون الحرب لعصبية ، أو قبلية ، أو شجاعة ، أو فروسية ، بل هي أعلى من ذلك وأسمى ، إنها لترب العالمين لا شريك له ، وإذا كان هذا المسلم والمقرر ، فما ظن كل منصف بجيش يكون الله مقصده ، والرسول قائده ومسيره ، والإسلام منهجه ، والصحابة رجاله !!

( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لم يقاتل إلا في تسع : بدر ، أحد ، الخندق ، وبني قريظة ، وبني المصطلق ، وخيبر ، وفتح مكة ، وحين ، والطائف ، وهذا على قول فتح عنوة ) – كما ذكر الإمام النووي يقول ابن تيمية ( لا يعلم انه ( صلى الله وسلم ) قاتل في غزاة إلا أحد ، ولم يقل أحداً إلا أبي بن خلف فيها ، فلم يفهم من قولهم ( قاتل في كذا ) أنه بنفسه ، كما فهمه البعض ممن لا اطلاع له على أحواله عليه السلام ) . ولو كان رجل عنف ، ورجل حروب وسافكاً للدماء ، وقاطعاً ، لما ترك أي فرصة ، أو فوت أي غزوة .

بل انه صلى الله عليه وسلم أوجب إبلاغ دعوة المسلمين إلى الكفار قبل مقاتلتهم ، وحرم المباغتة لمن يسبق تبليغه ، لان هذا الخصم قد يلجأ للتفاهم ويؤثر السلم فيدخل الإسلام أو يدخل في ذمة المسلمين .

هذا وقد ثبت – في صحيح مسلم – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث سرية قال لأميرها : " إذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ، أدعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فأدعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوا فأقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " وهذا يحتمل انه كان بدء الأمر قبل انتشار الدعوة ، فأما اليوم فقد انتشرت فاستغنى بذلك عن الدعاء عند القتال ، قال أحم : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم ) يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب ، حتى أظهر الله الدين ، وعلا الإسلام ولا أعرف اليوم أحداً يدعى ، فقد بلغت الدعوة كل أحد ، الروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يراد منهم ، وانما كانت الدعوة في أول الإسلام وإن دعا فلا بأس ، وقد روى ابن عمر – رضي الله عنهما – " أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون وأبلهم تسقى الماء فقتل المقاتلة وسبى الذرية " ( متفق عليه ) .

ويحتمل أن يحمل الأمر بالدعوة على الاستحباب ، وقد روى البخاري " أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر علياً حين أعطاه الراية يوم خيبر وبعثه إلى قتالهم ، أن يدعوهم وهم ممن بلغتهم الدعوة " .

هذا هو أدب الإسلام ، فأين هذا مما تفعله الدول الكافرة ، التي تعتبر المباغتة في الهجوم من البراعة العسكرية !؟

هذا وأن الأصل العام المتفق عليه هو قتال المشركين كافة ، أينما كانوا ، كما قال تعالى ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) ولكن هناك استثناء من الأصل العام وهو قوله تعالى ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا .. الآية ) ومن السنة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه فأنكر قتل النساء والصبيان ( أخرجه البخاري ومسلم ) وعن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش ، أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً ثم قال : " اغزوا في سبيل الله ، على اسم الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً " رواه مسلم وأبو داود – قال ابن حجر ( واتفق الجميع على منع القصد إلى قتل النساء والولدان ، أما النساء فلضعفهن ، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر ) . وأما حيث ابن عمر وفيه لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أتي بامرأة مقتولة ، فقال ( ما كانت هذه لتقاتل ) فمفهومه – كما قال ابن حجر – ( أنها لو قاتلت لقتلت ) .

- وبناء على هذا ، فلا يمكن أن يوصف المدنيون الإسرائيليون بأنهم أبرياء ، بل هؤلاء جميعاً تركوا أوطانهم أتوا غزاة معتدين -
ومن منهجه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يأمر بالتيسر ويقول ( يسروا ولا تعسروا ، وسكنوا ولا تنفروا ) رواه مسلم – وكان إذا جاء قوماً بليل لم يغر عليهم حتى يصبح ، ونهى أشد النهي عن التحريق بالنار بل أوجب احترام إنسانية الإنسان ، وحرم استعمال الأساليب البربرية التي لا يحتاج إليها ، وأوجب الوفاء بالعهد ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً ) .

ومن المبادئ القتالية الإسلامية أنه : ( إذا رجحت كفة المسلمين على أعدائهم في المعركة وظهرت الغلبة لهم كان عليهم بحق القرآن الكريم أن يكفوا القتال ويكتفوا بالأسر ، ليمنوا بالأسير بعد ذلك بحريته أو يفتدوا به مثله من أسراهم ، فيحسنوا إلى إنسانيين من عباد الله ) .

ومن منهج الإسلام في معاملة الأسرى تعلم المجاهدين المسلحون نوعين من الجهاد .

أولهما : جهاد في ميدان القتال حيث يبيعون أنفسهم لله وللحق الخالص .
وثانيهما : جهاد النفس فلا تسترسل في الغضب ، بل تقاتل من يقاتلها بالرفق لا بقانون الغابة .
وقد حض القرآن على إطعام الأسرى فقال : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً وييتماً وأسيراً أنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً ) وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يوصي بالأسرى خيراً ، كما قال في أسارى بدر ( استوصوا بالأسرى خيراً ) .
قال أحد أسرى بدر ( أبو عبدالعزيز بن عمير ) : مربي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال له : شد يديك به فإن أمه ذات متاع . قال وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر ، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر ، لوصية رسول الله إياهم بنا ، وما يقع في يد رجل منهم من كسرة خبز إلا نفحني بها ، قال ( فاستحي فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها ) . وقد وقع ثمامة بن أثال أسيراً في أيدي المسلمين وجاءوا به إلى رسول الله فقال : أحسنوا أسراهم ، وقيلوهم واسقوهم لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح وكان يوماً صائفاً فقيلوهم واسقوهم وأطعموهم ) . فأين حظ أسرانا – كما في غوانتنامو – ولو من ربع العشر حين نقلوا بطائرات بضائع ، بعد أن عصبت الأعين ، وحلقت الرؤوس ، وأبيدت اللحى

ولكن التألق في الشريعة والعلة ، والرفعة والسمو .
فما كانت السيرة المحمدية بتسلسلها وأحداثها ومواقفها ألا منهجاً يلتزم به المسلمون اتباعاً للمنهج ، والتزاماً بالقواعد كما قال تعالى :
( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوه ونصروه واتبعوا الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) ( الأعراف : 157 ) .

_____________________________________________

الهمجية بين الماضي والحاضر (2)

تلك وصايا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) _ في الحلقة السابقة _ لجند الرحمن وهم يخوضون القتال مع الكفار , ملؤها الرحمة والعدل , وفيها البراءة من الظلم والانتقام والوحشية والهمجية التي كانت ومازالت الصفة الغالبة على حروب الكفرة إن ما طرحنا جانباً الشعارات البراقة , والأعلام الخداعة , التي لا تجد لها أي مجال في أرض الواقع , ومن كان في شك من هذا فليسأل التاريخ كيف فتح الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكة من غير انتقام ممن سامه وأصحابه سوء العذاب , وكيف فتح عمر القدس وأعطى أهلها الأمان , وكيف فتح المسلمون الأندلس , ثم ليقارن ذلك _ مع أنه لا وجه للمقارنة !!

_ بما فعله الصليبيون عندما دخلوا بيت المقدس سنة 1099م , حيث أراقوا منه الدماء وقتلوا فيه أكثر من سبعين ألفاً ، حتى خاضت خيولهم في بحر من الدماء , وبما فعله التتار في بغداد _ كما ذكره ابن كثير في (البداية النهاية) حين كان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب , ففتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار , ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسلحة , حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة ... حتى تعطلت المساجد والجماعات والجمع مدة شهور ببغداد .

وقد أختلف الناس في كمية من قتل في بغداد من المسلمين في هذه الوقعة : فقيل ثمانمائة ألف وقيل ألف ألف , وقيل ألفي ألف نفس .
وهاهو التاريخ يعيد نفسه , وما المذابح المعاصرة عنا ببعيد ...

فما من وقع الوثنين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار , إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند آثروا الهجرة على البقاء ولم يصل منهم أطراف باكستان سوى ثلاثة ملايين فقط ! أما الملايين الخمسة فقد قضوا في الطريق .. طلعت عليهم العصابات الهندية فذبحتهم كالخراف على طول الطريق وتركت جثثهم نهباً للطير والوحش بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة لا تقل إن لم تزد على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد .

وفي الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية أباد خلفاء التتار من المسلمين في حلال ربع قرن ستة وعشرون مليوناً بمعدل مليون في السنة الواحدة ,
وفي يوغسلافيا أبيد من السلمين مليون بعد الحرب العالمية الثانية , وما تزال عمليات التعذيب الوحشي ماضية .

وأما اليهود فإن مذابحهم في قبية ودير ياسين وغزة وطبرية وغرندل وكفر قاسم وغيرها معروفة لا تخفى .

كما تم إبادة الألوف من المسلمين القاطنين في مخيمي صبرا وشاتيلا _ عام 1982م , وفي وصف ذلك قال راديو لندن في إحدى نشراته الإخبارية : ( إن المسلمين الذين توجهوا إلى هذين المخيمين كان من الصعب عليهم الحصول على تقدير دقيق لأن الجثث كانت مبعثرة في مساحات كبيرة وقد أزاحت الجرافات حطام المنازل وردمته فوق الجثث لتخفيها , ويقول مراسلنا : إنه رأى قتلى في الشوارع والبيوت من رجال ونساء وأطفال وأمهات يحتضن أطفالهم .

ووجه مذيع إحدى شبكات التلفزيون الأمريكي تحذيرات متكررة إلى مشاهديه بأنه وصله للتو فيلم من بيروت عن المذابح التي ارتكبت هناك أو ينصح الأطفال ومرضى القلب بعدم مشاهدة الفيلم , لأنه ما يتضمنه أكبر مما تتحمله نفوسهم .

وما جرى وما يجري في أفغانستان , فقد خلفت الحرب الأولى مليوني طفل معاق , ويكفي أن عشر ألغام العالم مزروعة في أرضها .
ثم ما يجري هذه الأيام في العراق من استخدام أسلحة المار على الأبرياء . إلى غير ذلك من الأحداث الدامية التي تمض القلوب , وتقض المضاجع , وتعقد المرارات في أفواه المسلمين .

لكن ما أردته من العرض السريع هو تجلية الصورة النضرة للقتال الإسلامي , الذي لا يوجد فيه رائحة لما افتراه أولئك الأفاكون , ولا ينبغي أن تعتبر مزاعمهم _ سواءً حول نبينا (صلى الله عليه وسلم) أو ما يسمى الجهاد خاصة , والإسلام عامة _ من أكاذيب التاريخ لأنها أضعف من أن تحسب من الأكاذيب التي تحتاج إلى تصحيح , وهي أظهر بطلاناً من تبطل بالمناقشة .

يقول غوستاف لوبون : ( وسيرى القارئ حين نبحث في فتوخ العرب وأسباب انتصاراتهم أن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن , وأن العرب تركوا المغلوبين أحراراً في أديانهم . فإذا حدث أن أنتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له , فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله , ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأخرى .

وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة , فلما قهر النصارى عرب الأندلس فضل معظمهم القتل والطرد على ترك الإسلام .

كما قال تعالى ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) . ( البقرة : 256 )

1
130
تعليقات (0)